دراسة علمية حديثة: السهر ليس كسلًا.. بل توقيت نومك مبرمج جينيًا

لطالما ارتبط الاستيقاظ المبكر في المخيلة الجماعية بصفات إيجابية كالنجاح والإنتاجية، في حين وُصم السهر ومحبو الليل بالكسل والتراخي، وكأن توقيت النوم والاستيقاظ قرار شخصي محض. إلا أن دراسة علمية حديثة قلبت هذه المعتقدات المتوارثة رأسًا على عقب، مؤكدة أن توقيت النوم تحدده جينات الإنسان، وليس عاداته أو اجتهاده الذاتي.
من نيويورك إلى العالم: كشف علمي يغيّر نظرتنا للنوم
خلال فعاليات "الندوة العالمية للنوم" التي نظمتها شركة Equinox بمدينة نيويورك، كشف البروفيسور مات ووكر، أستاذ علم الأعصاب وعلم النفس بجامعة كاليفورنيا – بيركلي، أن تفضيل البعض لـ السهر والنوم في ساعات متأخرة من الليل، واستيقاظهم في وقت متأخر صباحًا، ليس دليلًا على قلة الانضباط أو كسلًا، بل هو انعكاس لما يُعرف علميًا باسم "نوع الإيقاع الحيوي" أو الـ Chronotype، وهو النظام البيولوجي الذي يحدد توقيت شعور الجسم بالنعاس أو النشاط.
ووفقًا لووكر، فإن هذا الإيقاع الحيوي يخضع لتأثير العوامل الجينية بنسبة تتراوح بين 40 إلى 50%، مما يعني أن ما يقرب من نصف ما نعتبره "عادات نوم" هو في الحقيقة برمجة بيولوجية فطرية لا يمكن التحكم بها بسهولة.
المجتمع يكافئ المستيقظين مبكرًا ويُقصي السهارى
في تحليله الاجتماعي للظاهرة، انتقد ووكر النظرة المجتمعية التي تحتفي بمن يستيقظون باكرًا وتربط بينهم وبين صفات النجاح والالتزام، بينما تحكم على محبي السهر – خاصة من الشباب – بالفشل أو قلة الطموح.
وأشار إلى ظاهرة اجتماعية تُعرف بـ"التفاخر بعدم النوم" أو السهر (Sleep Deprivation Bragging)، حيث يتباهى البعض بقدرتهم على العمل لساعات طويلة دون نوم، في مشهد يُقدّم وكأن قلة النوم علامة تميّز ونجاح، بينما الحقيقة أن الحرمان من النوم قد يُسبب ضررًا بالغًا على الصحة العقلية والبدنية.
عندما تتحدى ساعتك البيولوجية… الثمن قد يكون صحتك
ولم تقف ملاحظات ووكر عند الجانب الاجتماعي فقط، بل دعمها بأدلة علمية تشير إلى خطورة العمل أو النوم خارج النمط البيولوجي الطبيعي للفرد. فالأشخاص الذين يُجبرون على النوم في أوقات لا تتماشى مع "الإيقاع الحيوي" يتعرضون لمخاطر صحية متعددة بسبب السهر ، من أبرزها:
زيادة احتمالات الإصابة بداء السكري بنسبة تصل إلى 30%.
ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق بشكل ملحوظ.
زيادة خطر الوفاة بنسبة تقارب 10% على المدى الطويل.
مشاكل مزمنة في القلب والشرايين.
اعتماد مفرط على الكافيين والمنشطات لتعويض النقص في الطاقة.
هل يمكن تغيير توقيت نومنا الطبيعي؟
على الرغم من أن الإيقاع الحيوي مبرمج جينيًا، إلا أن ووكر أوضح أن هناك بعض الاستراتيجيات التي قد تساعد في إجراء تعديلات طفيفة على هذا الإيقاع، مثل:
التعرض المنتظم والمبكر لضوء الشمس في الصباح، مما يساعد على إعادة ضبط الساعة البيولوجية.
الحفاظ على مواعيد ثابتة للنوم والاستيقاظ، حتى في أيام العطل، لتقليل اضطراب الساعة الداخلية.
تناول جرعات صغيرة من الميلاتونين، وهو الهرمون الطبيعي المنظم للنوم، في فترات المساء.
تهيئة بيئة نوم هادئة ومظلمة، والابتعاد عن مصادر الإضاءة الزرقاء مثل الشاشات قبل النوم.
الحد من الكافيين والمنشطات، خاصة في ساعات ما بعد الظهيرة.
ورغم كل هذه الحلول، شدد ووكر على أن أفضل ما يمكن فعله هو احترام نمط النوم الطبيعي الخاص بكل فرد قدر الإمكان، لا محاولة تغييره جذريًا.
ليس كل من يسهر كسولًا… بل لكل منا توقيته الفطري
في ختام مداخلته، وجّه البروفيسور ووكر رسالة واضحة للمجتمعات والأنظمة التعليمية والمؤسسات المهنية: كفوا عن الحكم على الأفراد بناءً على توقيت نومهم. فكما نختلف في فصائل الدم ولون العيون، نختلف كذلك في إيقاعات نومنا ومعدل السهر . بل إن "تحريك توقيت النوم 15 إلى 20 دقيقة فقط باتجاه نمطك البيولوجي الطبيعي قد يحدث فارقًا ملموسًا على المدى الطويل"، على حد تعبيره.
وبينما لا يزال هناك الكثير لاستكشافه في عالم النوم وعلاقته بجينات الإنسان، تبقى هذه الحقيقة واضحة: النوم ليس رفاهية، ولا دليل كسل أو نشاط… إنه مرآة دقيقة لتركيبتنا البيولوجية.