عاجل

في وقتٍ تتصاعد فيه الخطابات المتشنّجة والصدامية بين الشرق والغرب، ويُوظَّف فيه الدين لأغراض سياسية من جهة، بينما تُستثمر قيم الحداثة الغربية لتعزيز الهيمنة الثقافية من جهة أخرى، يقدّم العلّامة عبد الله بن بيه في كتابه "حوار عن بُعد بين الشرق والغرب" مساهمة فكرية نوعية. إذ يتجاوز فيه خطاب الشكوى والاحتجاج، ليطرح رؤية جديدة تُعيد بناء أسس الحوار بين الحضارات، انطلاقًا من منظور إسلامي عميق ومستنير، يعيد النظر في المفاهيم الكبرى التي شابها الالتباس، ويؤسس لحوار حضاري مستدام.

ينطلق العلامة ابن بيه من إيمان عميق بأن الحوار ليس خيارًا نخبويًا أو تكتيكًا سياسيًا مؤقتًا، بل هو فريضة شرعية وسُنّة نبوية ومقصد حضاري. وهو بذلك يعيد الحوار إلى أصوله في الوحي والتاريخ الإسلامي، حيث شكّل اللقاء مع الآخر الديني والحضاري جزءًا من التجربة الإسلامية منذ بداياتها، سواء في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لوفد نجران، أو في وثيقة المدينة، أو في تفاعلات الحضارة الإسلامية مع الحضارات الفارسية واليونانية والهندية.

يُعيد الكتاب طرح الحوار بوصفه بديلًا لمقولة "صراع الحضارات" التي روّج لها صاموئيل هنتنغتون، وامتدادًا نقديًا لمقولات "نهاية التاريخ" لفوكوياما، و"الحداثة السائلة" لبومان. في مواجهة هذه الأطروحات الغربية التي تفترض مركزية الغرب ونهاية البدائل الحضارية، يسعى العلامة ابن بيه إلى تقديم "البديل الإسلامي المقاصدي" القادر على المساهمة في النقاش الإنساني الكوني من موقع الندية لا التبعية.

كما أن هذا الكتاب لا يأتي في فراغ معرفي، بل يتناغم مع أطروحات فلسفية إسلامية معاصرة مثل "الوسطية" و"فقه التعايش" و"فقه المآلات"، كما يلتقي مع جهود أكاديمية عديدة في ميدان الدراسات ما بعد الاستعمارية، التي تنقد المركزية الأوروبية وتفتح المجال لتعددية معرفية وثقافية.

في "حوار عن بُعد بين الشرق والغرب"، يبني العلامة عبد الله بن بيه بنيةً مفاهيمية متماسكة تنطلق من تفكيك عدد من المفاهيم الكبرى التي طالها اللبس في الخطاب الحضاري العالمي، مثل "الحرية" و"الجهاد" و"حقوق الإنسان"، مقدّماً قراءة تأصيلية تُعيد لهذه المفاهيم موقعها الأخلاقي والإنساني ضمن الرؤية الإسلامية. فهو يميّز – على سبيل المثال – بين الحرية كتحرر من كل قيد بما في ذلك القيم، كما هو الحال في بعض الرؤى الليبرالية الغربية، والحرية كمسؤولية أخلاقية مقرونة بكرامة الإنسان وخضوعه للضوابط التي تحفظ التوازن بين الفرد والمجتمع. أما في موضوع "الجهاد"، فيردّه إلى مقاصده الحقيقية باعتباره دفاعًا عن الحقوق وردعًا للعدوان، لا وسيلة للهيمنة أو فرض العقيدة. كما يعيد طرح مفهوم حقوق الإنسان في ضوء المقاصد الشرعية، فيبرز انسجامها الجوهري مع مبادئ الشريعة التي تؤسس لحفظ النفس والعقل والدين والنسل والمال، غير أن هذه الحقوق تُقارب في الإسلام من زاوية التزامات متبادلة لا من زاوية فردانية مطلقة كما في النموذج الغربي.

ومنهج العلامة ابن بيه في تناول هذه المفاهيم يتميز بلغة مركّبة تزاوج بين الفقه، والفلسفة الأخلاقية، والقانون الدولي، كما أنه لا يكتفي بالدفاع عن الإسلام، بل يمارس نقدًا ذاتيًا للتراث، دون أن يقع في القطيعة، ويؤصّل للحوار من الداخل، من خلال فهم مقاصدي للدين يفرق بين الثوابت والمتغيرات، ويتيح تجديدًا متزنًا للفكر الإسلامي. وضمن هذا الإطار، يقترح ابن بيه خطابًا إسلاميًا جديدًا، عقلانيًا وإنسانيًا، يتجاوز ثنائية الصدام أو الذوبان، ويستند إلى مفهوم "التعارف" كمبدأ قرآني جامع، داعيًا إلى التأسيس لحوار كوني قائم على الكرامة والمصلحة المشتركة. وهو إذ يفكك صور التبسيط والاستقطاب بين "الشرق" و"الغرب"، يحرص على تبيان أن كلا الطرفين ليسا كتلة صمّاء، بل فضاءات متنوعة داخليًا، مما يستدعي مقاربة تفاهمية دقيقة قائمة على الاعتراف المتبادل، لا على الأدلجة أو التنميط، مقدّما بذلك إسهامًا علميًا وحضاريًا يُعد من أبرز محاولات التأصيل الإسلامي المعاصر للحوار بين الحضارات.

إن "حوار عن بُعد بين الشرق والغرب" هو ليس مجرد كتاب، بل بيان حضاري متكامل، يجسّد الحكمة الإسلامية في زمن التأزّم العالمي، ويقدّم خارطة طريق لبناء شراكة إنسانية قائمة على العدل والتفاهم والاحترام، وهو في الوقت ذاته دعوة للباحثين والأكاديميين إلى تجاوز ثنائية "نحن" و"هم"، وبناء خطاب تواصلي رصين ينتمي إلى الحق والرحمة والكرامة.

تم نسخ الرابط