عاجل

بعد اتفاق التهدئة بين واشنطن والحوثيين.. إلى أين تتجه اليمن؟

جانب من الأحداث
جانب من الأحداث

حملت الأيام الماضية تطورات لافتة على مستوى الجبهة اليمنية، وهي التطورات التي ارتبطت من جانب باستهداف الحوثيين لمطار بن غوريون، مرورًا بالقصف الإسرائيلي –المتزامن مع قصف أمريكي– على عدد من مناطق تنظيم الحوثي في اليمن، ومن جانب آخر بإعلان سلطنة عمان عن نجاح جهود الوساطة الخاصة بها لوقف إطلاق النار بين الحوثيين وبين الولايات المتحدة، وتعريجًا على ذلك أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تصريحات خلال الساعات الأخيرة، أن “الولايات المتحدة سوف تتوقف عن قصف الحوثيين في اليمن بعد أن وافقت الحركة اليمنية على التوقف عن تعطيل ممرات الشحن المهمة في الشرق الأوسط”، وذكر الرئيس الأمريكي أن “الحوثيين استسلموا، وأن الضربات الأمريكية ستتوقف” وفق تعبيره، وهي تطورات حملت العديد من التساؤلات التي صاحبتها، خصوصًا فيما يتعلق بماهية وحدود التوافقات التي توصلت إليها الولايات المتحدة مع الحوثي، فضلًا عن المؤشرات الخاصة بغياب تنسيق أمريكي إسرائيلي بخصوص الخطوة الأخيرة وما يعكسه ذلك، بالإضافة إلى حدود تماسك الاتفاق الأخير، والتداعيات التي ستترتب عليه.

دلالات مهمة 

شهدت الأيام الماضية مجموعة من التطورات اللافتة المرتبطة بمسار التصعيد الخاص بالجبهة اليمنية، بدءًا من الاستهداف الحوثي لمطار بن غوريون، مرورًا بعودة الاستهداف الإسرائيلي للحوثيين، ووصولًا إلى الإعلان العماني الأمريكي الحوثي عن التوصل إلى تهدئة، وقد حملت هذه التطورات النوعية مجموعة من الدلالات والرسائل الأساسية، التي يمكن تناولها في ضوء الآتي:

1- استمرار التصعيد الحوثي وتغير أنماط الاستهداف: أظهر الهجوم الحوثي الأخير على مطار بن غوريون، وهو الهجوم الأكثر نوعية وتصعيدًا من قبل التنظيم ضد إسرائيل في الأشهر الأخيرة، على اعتبار أن الهجوم استهدف واحدًا من أبرز المرافق الحيوية والاستراتيجية لتل أبيب، فضلًا عن أنه استطاع تجاوز منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية، ومن قبله استهداف التنظيم اليمني لحاملة الطائرات الأمريكية ترومان.. أظهرت هذه الهجمات قدرة من الحوثيين على التكيف مع الضربات الإسرائيلية المتقطعة التي تم توجيهها للتنظيم منذ نوفمبر 2023 وحتى اليوم، فضلًا عن التكيف مع الحملة الأمريكية المكثفة ضد التنظيم منذ منتصف مارس الماضي وحتى الإعلان عن الاتفاق الأخير، بما يبعث برسائل بأن تل أبيب فشلت في تحييد جبهة الحوثيين عن الحرب في غزة، على غرار ما حدث مع حزب الله اللبناني، ويبدو أن هذا التكيف الحوثي مع هذه الضربات يرجع بشكل رئيسي إلى حالة العجز الاستخباراتي الإسرائيلي فيما يتعلق بحالة الحوثيين، أما على مستوى الضربات الأمريكية، فإن هذه الضربات أسهمت فقط في تدمير بعض البنى التحتية الخاصة بالحوثي، وتقليص وتيرة ومعدل الهجمات الحوثية ضد إسرائيل، وهنا فإن الحديث ينصب عن تقليص هذه الهجمات وليس منعها. وهنا يمكن الإشارة إلى استمرار قدرة الحوثيين على مهاجمة إسرائيل، باعتباره عاملًا معياريًا يمكن القياس عليه فيما يتعلق بمسألة خسائر التنظيم. في ضوء عدم توفر مؤشرات كمية يمكن من خلالها قياس مدى الخسائر التي لحقت بالحوثيين، مثل: عدد المواقع المدمرة، والقيادات التي استُهدفت، وعدد مراكز القيادة والسيطرة التي تم تدميرها. 

2- تحول إسرائيل نحو الاستراتيجية الهجومية: فور الإعلان عن استهداف الحوثيين لمنطقة قريبة من مطار بن غوريون، بواسطة صاروخ بالستي، طلب المجلس الأمني المُصغر (المكلف بالقرارات الأمنية) من الجيش تقديم خطط هجومية لردع الحوثيين. وحذّر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، من أن الرد سيكون قاسيًا، قائلًا في بيانه: “سنضرب كل من يهاجمنا سبعة أضعاف”، وإذا ما وُضعت هذه التصريحات جنبًا إلى جنب مع مؤشرات أخرى، ومنها الهجمات الإسرائيلية التي استهدفت ميناء الحديدة ومصنع للإسمنت في المحافظة اليمنية الساحلية على البحر الأحمر، بالإضافة إلى التصريحات الحوثية عن عدم وقف الهجمات ضد إسرائيل، فإن هذه المعطيات تعكس أن إسرائيل سوف تتجه نحو تغيير الاستراتيجية الدفاعية التي كانت تتبناها تجاه الحوثيين، منذ أكتوبر 2023، إلى استراتيجية هجومية تستهدف إيقاع الهزيمة به، ويُقصد بهذه الاستراتيجية أن تفتح إسرائيل جبهة قتال مفتوحة سواءً بشكل يومي أو أسبوعي ضد الحوثيين على المدى المنظور، ويعزز من فرص هذا الافتراض، خطورة ونوعية الهجوم الأخير الذي نفذه الحوثي، فضلًا عن أن الهجوم حفّز المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نحو إيلاء أهمية كبرى للمواجهة مع الحوثيين حاليًا. أيضًا تنظر تل أبيب إلى تهديد الجبهة اليمنية باعتبارها تمثل في الوقت الراهن أحد العوائق الرئيسية لتحقيق ما يصفه “نتنياهو” بـ “تغيير وجه الشرق الأوسط” في إشارة إلى الترتيبات والمتغيرات الإقليمية التي تسعى إسرائيل إلى إرسائها في المنطقة.

لكن إسرائيل تواجه مجموعة من التحديات المركبة فيما يتعلق بملف الحوثيين، خصوصًا ما يتصل بالافتقار الإسرائيلي حتى اللحظة إلى معلومات استخبارية موثوق بها عن مواقع انتشار مخازن ومنصات الصواريخ التي يطلقها الحوثيون، وهو ما يستدعي المغامرة ببناء قرار الضربات الوقائية والاستباقية المحتملة ضد الحوثيين على معلومات أوّلية وغير متيقن من مدى صحتها، كذلك فإن العنصر السابق يعزز من فرص قدرة الحوثيين على تنفيذ هجمات نوعية ولو بوتيرة متباعدة ضد إسرائيل؛ الأمر الذي يزيد من قلق واضطرابات الداخل الإسرائيلي، أيضًا يوجد إشكالات لوجستية وعسكرية كبيرة فيما يتعلق باستهداف الحوثيين؛ نظرًا لبعد المسافة الجغرافية؛ الأمر الذي يجعل العمليات ضد التنظيم شديدة التكلفة بالنسبة لتل أبيب، فضلًا عن الانشغال الإسرائيلي بجبهة غزة، والتي تولي حاليًا لها الجهد الحربي الأكبر.

3- فاعلية الوساطة العمانية: شكل الاتفاق الأخير الذي استطاعت سلطنة عمان التوصل إليه بين الحوثيين والولايات المتحدة اختراقًا دبلوماسيًا شديد الأهمية، يُضاف إلى سجل حافل لسلطنة عمان في إطار الاعتماد على “دبلوماسية الوساطة” في منطقة الشرق الأوسط، إذ مثلت السلطنة حلقة مهمة في إطار العديد من الملفات النوعية بالمنطقة، على غرار التوسط في الملف اليمني بين كافة الفرقاء، والوساطة والجهود الكبيرة التي قامت بها بين المملكة العربية السعودية وإيران والتي أفضت إلى اتفاق تطبيع العلاقات في مارس 2023 والذي تم توقيعه في الصين، وفي هذا السياق لا يجب فصل هذه الوساطة العمانية عن مجموعة من الاعتبارات المهمة، وأولها: كما سبق الإشارة اعتماد عمان بشكل رئيسي على “دبلوماسية الوساطة” كمرتكز رئيسي لسياستها الخارجية، وثانيها: العلاقات الوثيقة التي تربط عمان بكافة الأطراف خصوصًا الحوثيين وإيران وعلى الجانب الآخر الولايات المتحدة، وثالثها: الوساطة العمانية الجارية بين الولايات المتحدة وإيران، وكأن مسألة الحوثيين كانت مهمة متفرعة من دور عُمان الأساسي في المفاوضات بين إدارة ترامب وإيران. بما يعكس –حتى وإن لم يتم التصريح بذلك– أن المباحثات الأمريكية الإيرانية بوساطة عمانية قد تطرقت إلى مسألة الحوثيين، بل إن الهجوم الحوثي الأخير على مطار بن غوريون قد قُرئ من قبل بعض التقديرات باعتباره رسالة من طهران لتل أبيب.

4- استمرار تبني الحوثيين لمبدأ “وحدة الساحات”: فور الإعلان عن الاتفاق الأخير بين الحوثيين والولايات المتحدة، سارعت بعض التحليلات إلى تبني سردية تحاول تشبيه هذا الاتفاق بالاتفاق الذي جرى بين إسرائيل وحزب الله، لكن المعطيات اللاحقة كشفت عن اختلافات كبيرة بين المشهدين، وذلك على مستويات متعددة؛ أولها: أن الاتفاق الأخير بين الولايات المتحدة والحوثي حتى اللحظة لم تتضح معالمه من حيث كونه اتفاقًا ذا طابع تكتيكي أم أنه اتفاق استراتيجي مستدام، وثانيها: أن الاتفاق لم يشمل إسرائيل؛ حيث أعلن الحوثيون عبر بيانات وتصريحات عديدة لمسئولي المجلس السياسي للتنظيم، أن الاتفاق لا يشمل الهجمات ضد إسرائيل، معلنين استمرار ما وصفوه بـ “الحصار” المفروض على إسرائيل، بما يعكس استمرار مبدأ “وحدة الساحات” بالنسبة للتنظيم، وسوف تكشف الساعات والأيام المقبلة، عن أثر هذا الاتفاق عمليًا.

5- رسائل أمريكية مبطنة لإسرائيل: حمل الاتفاق الأخير الذي تم الإعلان عنه بين الولايات المتحدة والحوثيين، العديد من الرسائل المبطنة والضمنية من قبل واشنطن لتل أبيب، خصوصًا وأن تصريحات المسئولين الأمريكيين وعلى رأسهم الرئيس دونالد ترامب، لم تتطرق إلى موقع إسرائيل في الاتفاق بتاتًا؛ الأمر الذي يمكن قراءته على أنها رسائل امتعاض من قبل الولايات المتحدة تجاه تل أبيب، ويُمكن الاستدلال على هذه الفرضية من خلال مجموعة من المؤشرات الرئيسية؛ وأولها: ما ذكره مسئول أمريكي كبير لموقع “أكسيوس” من أن الولايات المتحدة لم تخطر إسرائيل مسبقًا بخصوص اتفاقها مع الحوثيين، وهو ما أكدته العديد من وسائل الإعلام العبرية، وثانيها: أن الولايات المتحدة أيضًا ووفق العديد من التقارير تُخفي العديد من المعلومات الخاصة بطبيعة وحيثيات المباحثات الجارية مع إيران عن إسرائيل، وثالثها: ما ذكرته بعض التقارير من أن إسرائيل حاولت خلال الأيام الماضية تضمين زيارة “ترامب” إلى الشرق الأوسط بزيارة لتل أبيب، وهو ما لم تستجب له الإدارة الأمريكية، وتعكس هذه المعطيات امتعاضًا وغضبًا أمريكيًا من النهج الإسرائيلي سواءً في قطاع غزة والملف الفلسطيني، أو على مستوى التعامل مع أزمات الداخل الإسرائيلي، فضلًا عن موقف إسرائيل من المباحثات الأمريكية الإيرانية وهجومها على هذه المباحثات. 

6- احتمالية مناورة واشنطن التكتيكية: أحد الافتراضات الرئيسية المطروحة في سياق فهم وقراءة الاتفاق الأخير بين الولايات المتحدة والحوثيين، يرتبط بشكل رئيسي باحتمالية أن يكون هذا الاتفاق هو مناورة تكتيكية من قبل الإدارة الأمريكية الحالية، وذلك استنادًا إلى بعض الاعتبارات الرئيسية، خصوصًا ما يتصل بالسعي لبعث رسائل إيجابية لإيران في أثناء المباحثات الجارية بين الجانبين، فضلًا عن كونها خطوة استباقية لزيارة “ترامب” إلى المنطقة العربية والتي ستشمل الإمارات والسعودية وقطر، ويعني هذا السيناريو عمليًا أن الولايات المتحدة قد تعود بعد فترة لاستكمال هجماتها ضد الحوثيين، وربما الدفع باتجاه عملية برية ضد التنظيم، ويستند هذا الافتراض إلى مجموعة من الاعتبارات الرئيسية، وأولها: أن “ترامب” دأب منذ ترشحه للرئاسة الأمريكية في الولاية الحالية على السعي لتحقيق أي منجزات تكتيكية أو استراتيجية في ملف السياسة الخارجية، للترويج لإدارته وقدرتها على حلحلة بعض الملفات، وثانيها: أن فكرة استباق هذا الاتفاق لجولة ترامب الشرق أوسطية تحمل دلالة مرتبطة بكون “ترامب” يسعى إلى عدم تعكير صفو الزيارة، وثالثها: أن الحيثيات الخاصة بالاتفاق نفسه كانت مبهمة وغامضة إلى حد كبير، ورابعها: أن مصير هذا الاتفاق عمليًا أيضًا سوف يُحدد على أساس ما إذا كانت حركة الملاحة الدولية ستعود إلى طبيعتها أم لا خاصة مع فصل الحوثيين لهجماتهم على إسرائيل عن هجماتهم على الولايات المتحدة. 

المسارات المحتملة

تكشف المعطيات والسياقات السابق الإشارة إليها عن مجموعة من المسارات المحتملة الخاصة بمآلات التصعيد في الجبهة اليمنية، وهي المسارات التي يُمكن تناولها في ضوء الآتي:

1- استمرار المواجهات الإسرائيلية مع الحوثيين: يفترض هذا السيناريو استمرار الهجمات الخاصة بتنظيم الحوثي ضد إسرائيل، سواءً عبر استهداف العمق الإسرائيلي كما حدث في هجوم مطار بن غوريون الأخير، أو من خلال استهداف السفن الإسرائيلية في منطقة البحر الأحمر، وتباعًا تبني إسرائيل أنماطًا هجومية أكبر ضد التنظيم، مع سعي تل أبيب إلى تطوير استراتيجية الردع الخاصة بها تجاه الحوثيين، وذلك عبر أنماط ومستويات متعددة، سواءً ما يتعلق بالسعي لتكوين قاعدة معلومات استخباراتية تضمن المزيد من الفاعلية للضربات ضد الحوثي، أو من خلال ضرب المزيد من البنى التحتية الخاصة بالتنظيم، أو من خلال التحرك في إطار جماعي لتشكيل مظلة إقليمية لمواجهة تهديدات التنظيم. وسوف تكون صيرورة هذا السيناريو مرتبطة إلى حد كبير بمآلات جبهة غزة ومدى القدرة على التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار، يضمن التهدئة إقليميًا.

2- حفاظ إسرائيل على استراتيجية رد الفعل بمعزل عن واشنطن: يفترض هذا السيناريو أن تقوم إسرائيل بالحفاظ على استراتيجية “رد الفعل” تجاه تنظيم الحوثي، بمعنى تنظيم رد الفعل الإسرائيلي بما يناسب الهجمات الحوثية كمًا وكيفًا، بما يضمن عدم توسيع هذه الجبهة نظرًا لتكلفتها الكبيرة بالنسبة لتل أبيب، فضلًا عن رغبة إسرائيل في التفرغ حاليًا لجبهة غزة وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للدولة العبرية، أيضًا يبدو أن هذا السيناريو سوف يتضمن تحييدًا للعامل الأمريكي، على اعتبار أن اتفاق التهدئة الأخير قد يدفع باتجاه تجنب الحوثيين لاستهداف السفن الأمريكية، وتباعًا تحييد الولايات المتحدة نفسها عن التصعيد ضد الحوثي. 

3- عودة الولايات المتحدة إلى التصعيد ضد الحوثي: يستند هذا السيناريو إلى فرضية أن اتفاق التهدئة الأخير الذي تم التوصل إليه بين الولايات المتحدة والحوثيين بوساطة عمانية، هو مناورة تكتيكية من واشنطن، قبيل زيارة دونالد ترامب إلى المنطقة، وحال عودة الولايات المتحدة إلى مسار التصعيد ضد الحوثي، على الأرجح سوف تتفجر الأوضاع مرة أخرى في منطقة البحر الأحمر، وربما تضغط الولايات المتحدة باتجاه تنفيذ عملية برية ضد الحوثي. 

ختامًا، يمكن القول إن كافة التطورات التي شهدتها الجبهة اليمنية خلال الأيام الماضية كان لها ارتباط مباشر بمسارات عديدة راهنة، خصوصًا ما يتصل بزيارة الرئيس دونالد ترامب إلى المنطقة، فضلًا عن المباحثات الأمريكية الإيرانية الجارية، ويُضاف إليها بطبيعة الحال اتجاهات ومسارات التصعيد الإسرائيلي المحتملة ضد إيران، لكن المؤكد أن إسرائيل فشلت حتى اللحظة على المستوى الأمني والاستخباراتي في التعامل مع التهديدات الحوثية، كما أنها عجزت عن تفكيك مبدأ “وحدة الساحات” في حالة الحوثيين.

تم نسخ الرابط