دلالات شطب روسيا لطالبان من قائمة الإرهاب بين الاعتبارات الأمنية والتطبيع

في سابقة تعكس تحوّلًا ملحوظًا في السياسة الروسيّة تجاه المشهد الأفغاني، أصدرت المحكمة العليا في روسيا، بتاريخ 17 أبريل 2025، حُكمًا قضائيًا يقضي برفع حركة طالبان من قائمة التنظيمات الإرهابية المحظورة، استنادًا إلى تعديلات تشريعيّة أقرّها المُشرّع الروسي بمُوجب القانون الاتحادي رقم 513-FZ الصادر في 28 ديسمبر 2024. ويُعد القرار ساري المفعول فور صدوره، ليشكّل بذلك نقطة تحوّل قانونيّة ودبلوماسيّة تُنهي حالة التجريم الجنائي الرسمي لأي تواصل أو تعاون مع الحركة داخل الأراضي الروسية، كما كان الحال منذ إدراجها في القائمة عام 2003.
خطوة على طريق اكتساب الشرعية
ووفقًا لدراسة أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، جاء هذا التطور القانوني كخُطوة رمزيّة تُمهّد لتعزيز التقارب السياسي والدبلوماسي بين موسكو وكابول، إذ لم تمر سوى ستة أيام على صدور الحكم حتّى أعلنت وزارة الخارجية الروسية، في 23 أبريل 2025، رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي مع أفغانستان، والسماح لطالبان بتعيين سفير لها في موسكو. وفي السياق ذاته، أكّد المبعوث الروسي لأفغانستان، زمير كابولوف، خلال لقائه مع وزير خارجية طالبان، أمير خان متقي، ووزير الداخلية، سراج الدين حقاني، في كابول أن “روسيا ترغب في توسيع علاقاتها مع أفغانستان، وقد بدأت بالفعل اتّخاذ خطوات عمليّة وجادّة في هذا الاتجاه”، وكذا من المقرر تفعيل لجنة مُشتركة بين البلدين خلال “منتدى قازان الدولي السادس عشر” المُنعقد في موسكو الشهر الجاري. وتُمثل تلك التطورات مُؤشّرًا واضحًا على رغبة روسيا في إعادة تعريف علاقتها مع حكومة الأمر الواقع في أفغانستان، بما يتجاوز الاعتبارات البراجماتية السابقة في تعاملاتها مع حركة طالبان إلى بناء مسار شراكة أكثر مُؤسسيّة وانفتاحًا في عدد من الملفات الحيوية مع الحركة التي تُسيطر على الحكم منذ أغسطس عام 2021.
من جهتها، قابلت حركة طالبان هذا التحول الروسي بترحيب واضح، واعتبرته تطورًا استراتيجيًا في مسار العلاقات بين الجانبين، حيث صرّح وزير خارجية حكومتها، أمير خان متقي، خلال لقائه مع السفير الروسي في كابول، بأنّ الخطوة تُمثّل “تطورًا مهمًا” في مسار التعاون الثنائي، بما يعكس رغبة الطرفين في تعميق مُستويات التنسيق السياسي والاقتصادي والأمني. وفي هذا السياق، تُناقش هذه الورقة خلفيات القرار الروسي الخاص برفع حركة طالبان من قائمة الإرهاب، ودوافعه المُتعددة –لا سيما أبعاده الأمنية– كما تسعى إلى تحليل تداعياته المُحتملة، وبيان مدى استفادة الحركة منه كرافعة مُحتملة لتعزيز جهودها الرامية إلى نيل الشرعية الإقليميّة والدوليّة الغائبة عن حكومتها حتى الآن.
تحوّل تدريجي
يُمكن القول إن تغيير الموقف الروسي من حركة طالبان –من تصنيفها كتنظيم إرهابي إلى رفعها من القائمة والتعامل معها كشريك استراتيجي– لم يكن مُجرّد قرار عابر أو استجابة ظرفيّة آنيّة، بل هو نتاج مسار مُتدرّج بدأ منذ سنوات، وترافق مع تغيّرات في الرؤية الروسية لدور طالبان في أفغانستان والإقليم، وتقدير موسكو للمصالح الأمنية والجيوسياسية التي يمكن تحقيقها من خلال الانفتاح عليها. بعبارة أخرى، يُعد قرار روسيا برفع طالبان من قائمة الإرهاب بمثابة خُطوّة قانونيّة تُجسّد التحول التدريجي في السياسة الروسية تجاه الحركة الأفغانية، وتعكس تقاربًا ملحوظًا بدأ في مرحلة ما قبل عودة الحركة إلى سُدّة حكمها الثاني في أفغانستان. فمنذ عام 2015 بدأ الكرملين في تغيير ملامح تعامله مع طالبان، واتّجه نحو إقامة قنوات اتصال غير رسميّة معها، وتُشير المصادر إلى أن موسكو قدّمت دعمًا معنويًا وسياسيًا، بل وتوجد مزاعم تُفيد بإمدادها للحركة بالأسلحة خلال مُحاربتها للولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان. ومنذ عام 2017، توسّع التعاون بين الطّرفين ليشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية، إضافة إلى تزويد روسيا للحركة بالمساعدات العسكرية في حربها ضد تنظيم داعش.
وعلى الرغم من أن روسيا لم تُقدم على الاعتراف رسميًا بحركة طالبان بعد عودتها للحكم في أفغانستان عام 2021، فإنها اتّبعت نهجًا يُمكن وصفه بـ “الاعتراف الضمني” بها كحكومة أمر واقع. وقد تجسّد هذا الاعتراف غير الرسمي في مظاهر عديدة؛ أبرزها على سبيل المثال وليس الحصر، استمرار عمل السفارة الروسية في كابول عقب استيلاء طالبان عليها، وكان السفير الروسي دميتري جيرنوف حينها أول دبلوماسي أجنبي يلتقي مع ممثلي الحركة على الأراضي الأفغانية. فضلًا عن استقبال روسيا لوفود رسمية من طالبان على مدار السنوات التالية؛ حيث شاركت الحركة في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي في عامي 2022 و2024. كما طرأ تحوّل نوعي في الخطاب الرسمي الروسي، تجلّى في تصريحات مسئوليها الذين باتوا يُعيدون توصيف طالبان بوصفها حركة محلية يمكن احتواؤها، بدلًا من اعتبارها تهديدًا عابرًا للحدود. ففي سبتمبر 2023، صرّح زامير كابولوف، الممثل الخاص للرئيس الروسي إلى أفغانستان، بأن “موسكو لا تعتبر طالبان إرهابية في جوهرها”، مُعتبرًا أنها تطورت لتصبح “حركة وطنية” لا تسعى إلى تصدير أيديولوجيتها إلى الخارج أو الانخراط في الجهاد العالمي.
ومع مطلع عام 2024، بدأت الإجراءات القانونية تتبلور لتُترجم هذا التوجه السياسي إلى واقع تشريعي؛ ففي مايو من العام نفسه، رفعت وزارتا الخارجية والعدل الروسيتان توصيةً إلى الرئيس فلاديمير بوتين بإمكانية شطب طالبان من قائمة التنظيمات الإرهابية المحظورة. وفي يوليو العام الماضي، وصف بوتين الحركة بأنها “حليف في الحرب ضد الإرهاب”. وقد تُوّج هذا المسار في نهاية العام الماضي، حينما صدر قانون جديد يُخوّل السلطات الروسية إزالة كيانات من قائمة التنظيمات الإرهابية، وهو ما أفسح المجال أمام خطوات تنفيذية لاحقة؛ ففي ديسمبر من العام نفسه، وافق مجلس الدوما على القراءة الأولى لمشروع قانون يُسهّل هذا الإجراء. وأخيرًا، في مارس 2025، قدّم مكتب المدعي العام التماسًا رسميًا إلى المحكمة العليا يشمل شطب طالبان من القائمة، وهي الخطوة التي عُيّنت لها جلسة استماع في 17 أبريل، لتُعلن بذلك روسيا نهاية مسار قانوني يعكس تحوّلًا سياسيًا واستراتيجيًا طويل الأمد في موقفها من الحركة.
دوافع عديدة
لا يُمكن فهم قرار روسيا بشطب حركة طالبان من قائمة التنظيمات الإرهابية بمعزل عن مجموعة من الحسابات البراجماتية والأهداف الاستراتيجية التي تتنوّع بين ما هو أمني يرتبط بضبط حدودها الجنوبية وتأمين مصالحها في الجمهوريات السوفيتية السابقة، وما هو اقتصادي يتّصل بإحياء الروابط التجارية عبر أفغانستان، فضلًا عن أهداف جيوسياسية تتعلّق بإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة في مواجهة المُنافسة الغربيّة والصينيّة المُتناميّة. ويُمكن توضيح أبرز هذه الأهداف فيما يلي:
1. اعتبارات أمنيّة: رغم أن قرار روسيا بشطب حركة طالبان من قائمة التنظيمات الإرهابيّة جاء تتويجًا لمسار من التقارب التدريجي الذي بدأ منذ سنوات وتوطّدت أواصره بعد سيطرة الحركة على الحكم في كابول عام 2021، فإن الوتيرة المُتسارعة لهذا التقارب خلال الشهور الأخيرة تكشف عن بُعد أمني مُتصاعد فرض نفسه على صانع القرار الروسي، لا سيّما في ظل تنامي تهديد تنظيم “داعش –خراسان” الذي برز كعدو مُشترك لكل من موسكو وكابول. حيث بات حاليًا أخطر الأفرع الداعشية في آسيا، بعدما أقدم على تنفيذ العديد من الهجمات النوعيّة داخل وخارج الجغرافيا الأفغانيّة، وصُولًا إلى تنفيذ هجمات على الأراضي الروسيّة. أبرزها الهجوم الذي شنّه التنظيم في مارس عام 2024 على قاعة كروكوس شمال غرب موسكو، والذي أودى بحياة ما يقرب من 150 شخصًا، ناهيك عن الهجمات الأخرى التي نفّذها ضد أهداف روسيّة في كابول، وجُهوده الدعائية الحثيثة لتحفيز مُقاتليه على استهداف روسيا، رغبةً في الثأر من ضُلوع الأخيرة في الحرب على داعش بالشرق الأوسط وأفريقيا، وكذا دورها في تضييق الخناق على نشاطه في القوقاز وآسيا الوسطى، وعلاقاتها الوثيقة مع خصُومه الرئيسيين كالحكومة الإيرانية وحركة طالبان. ويُغذّي تلك الدوافع الانتقاميّة العداء التاريخي لمُقاتلي التنظيم المُنحدرين من دول آسيا الوسطى مع روسيا على خلفيّة الحرب السوفيتيّة في أفغانستان ثمانينيات القرن الماضي.
وعليه، تنظر موسكو إلى أفغانستان بوصفها ساحة مركزيّة في مُواجهة الإرهاب العابر للحدود، لما تُمثّله من نقطة ارتكاز جغرافي قريبة من حدود منطقة آسيا الوسطى التي تُعدها روسيا امتدادًا استراتيجيًا لأمنها القومي وفقًا لعقيدتها الأمنيّة، وتخشى من تداعيات تمدد الفرع الخراساني لداعش على أراضيها، خاصة في ظل التقارير الاستخباراتية التي تُؤكّد ارتفاع مُؤشّرات تجنيد التنظيم لمُقاتلين من المنطقة، واستغلاله كذلك للجاليات الطاجيكيّة داخل الأراضي الروسيّة لتنفيذ عمليات إرهابيّة. وفي ضوء ذلك، يُمكن القول إن المخاوف الأمنية لعبت الدور الأكثر حسمًا في تغيير المقاربة الروسية تجاه طالبان، ليس باعتبارها حليفًا استراتيجيًا بالمعنى التقليدي، وإنما بوصفها أداة ضرورية لضبط إيقاع التهديد الإرهابي المتصاعد من أفغانستان، في ظل تفاقم نشاط “داعش – خراسان” في الإقليم، وتحوّله إلى مصدر قلق مُشترك لمُعظم دول آسيا الوسطى وروسيا على حد سواء.
وتُحيلنا حقيقة أن روسيا تنظر في الوقت الرّاهن إلى حركة طالبان باعتبارها شريكًا رئيسيًا يُمكن التنسيق معه استخباراتيًا وأمنيًا لاحتواء التهديدات الإرهابية العابرة للحدود، إلى نتيجة مفادها نجاح الحركة في استخدام ورقة مُكافحة الإرهاب لتعزيز شرعيّة حُكومتها وكسر عُزلتها، من خلال إقامة ترتيبات أمنيّة تعاونيّة مع الأطراف الإقليميّة والدوليّة لتطويق الأخطار الإرهابية. ويُمكن نمذجة مُقاربة طالبان في محاربة “داعش – خراسان” لترجيح صحّة هذا الطرح؛ حيث اعتمدت الحركة استراتيجية عنيفة في تعاطيها مع التنظيم، تضمنت في أحد جوانبها –جوانب نفعية- ويظهر ذلك بشكل أكثر وضوحًا في لغة الخطاب التي يتبناها قادة الحركة ومسئوليها عند سؤالهم بشأن الأخطار المرتبطة بنشاط داعش إذ تنقسم إلى نوعين:
الأول: تصريحات تُركّز على إنكار وجود تهديد ملموس للفرع الخراساني للتنظيم على الأراضي الأفغانية، وتستعرض قدرات الحركة على إرساء مُعادلة أمنية مستقرة في الداخل الأفغاني. وهذا النوع تستخدمه الحركة وقتما تُريد كسب ثقة المجتمع الدولي في حكمها، وتصدير صورة عن أفغانستان كبيئة آمنة يمكنها استقبال الاستثمارات الأجنبية والأفواج السياحية من شتى أنحاء العالم.
والثاني: خطابات تتضمن إخبار العالم بأن عدم الاستقرار في أفغانستان ليس في مصلحة أحد، وأن الضغط على حكومة طالبان من شأنه الإضرار بباقي دول العالم، وأن التعاون مع الحركة يضمن السيطرة على خطر داعش. ويأتي هذا الخطاب اعتقادًا من طالبان بأنه كلما زاد التهديد الذي يشكله “داعش – خراسان” كلما زادت حاجة دول المنطقة إلى التعاون مع طالبان في الملف الأمني. وفي هذا الصدد، تُجادل العديد من المصادر بأن طالبان تعمد أحيانًا إلى تضخيم تهديد “داعش – خراسان” كورقة مساومة للضغط بها على المجتمع الدولي للحصول على المساعدات والتنازلات والدعم المالي، في ظل تزايد المخاوف الآسيوية والغربية من تنامي نفوذ داعش وقدرته على تنظيم وشن هجمات عابرة للحدود خارج أفغانستان، كما أن الضربات التي توجهها الحركة ضد التنظيم تعطيها فرصة لاستعراض قدراتها أمام المجتمع الدولي بأنها تستطيع تطويق التهديدات الإرهابية، ويكسبها غطاءً شرعيًا يرسخ من وجودها (كحكومة أمر واقع) مما يسمح لها بحرية أكبر على الساحة الدولية، ويلهي الأنظار عن إيوائها لتنظيم القاعدة وغيرة التنظيمات الإرهابية الأخرى العاملة في كنفها.
ويعكس النموذج سالف الذكر، براجماتية طالبان في توظيف ملف مكافحة الإرهاب لتحقيق مكاسب تتصل بالاعتراف بحكومتها. ويبدو أن موسكو أدركت هذا المنحى جيدًا، وراهنت على استثماره لصالح تأمين بيئتها الإقليمية القريبة.
2. تقويض النفوذ الغربي وتعزيز الحضور الإقليمي: يندرج قرار روسيا بشطب حركة طالبان من قائمة التنظيمات الإرهابية ضمن رؤية استراتيجية أوسع، تسعى موسكو من خلالها إلى إعادة رسم توازنات النفوذ في محيطها الإقليمي، وتحديدًا في آسيا الوسطى، في مواجهة محاولات الغرب استعادة موطئ قدم على الجغرافيا الأفغانية، التي لطالما كانت ساحة رئيسية لاختبارات توازنات القُوى الإقليميّة والعالميّة خلال العقود الفائتة. فمنذ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في عام 2021، سعت روسيا إلى ملء الفراغ الجيوسياسي المتروك، مدفوعةً برغبتها في الحيلولة دون تحوّل طالبان إلى ورقة في يد واشنطن، وإحباط أي مساعٍ لعودة الاستخبارات الغربية عبر تفاهمات مباشرة أو غير مباشرة مع الحركة.
ويكتسب هذا التوجه أهمية متزايدة في ظل الحرب الجارية في أوكرانيا، والتي دفعت موسكو إلى تعميق تحالفاتها مع القوى المناهضة للغرب، وتوظيف علاقاتها مع طالبان كورقة ضغط سياسية واستراتيجية في وجه الولايات المتحدة. كما يتسق هذا الانفتاح مع الخطاب الروسي المعادي للغرب، الذي يُقدّم طالبان كحركة وطنية نجحت في مقاومة النفوذ الأميركي، ويمنح موسكو فرصة لإبراز إخفاق السياسات الأمريكية في أفغانستان، وتقديم نفسها كقوة ضامنة للاستقرار في المنطقة، وكشريك يُمكن لطالبان الاعتماد عليه، بما يعزّز من نفوذها في قلب آسيا الوسطى ويحدّ من فرص أي اختراق غربي مرتقب.
3. تحقيق مكاسب اقتصادية: يمثّل البُعد الاقتصادي أحد المحركات الرئيسة وراء القرار الروسي بشطب حركة طالبان من قائمة التنظيمات الإرهابية، إذ تسعى موسكو إلى استثمار انخراطها المُتزايد مع الحركة لتعزيز مصالحها الاقتصادية، في سياق ضاغط سبّبته العقوبات الغربية المفروضة على الاقتصاد الروسي منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. وتُدرك موسكو أن تعزيز العلاقة مع طالبان يفتح الباب أمام فرص اقتصادية واعدة، ويضمن لها تأمين موطئ قدم اقتصادي طويل الأمد في أفغانستان، على نحو يُمكّنها من تعويض خسائرها الناجمة عن تلك العقوبات، وفي الوقت ذاته يُرسّخ مكانتها كفاعل اقتصادي محوري في قلب آسيا. لا سيما في ظل ما تزخر به الجغرافيا الأفغانية من موارد طبيعية وثروات معدنية استراتيجية، مثل الليثيوم والنحاس والذهب، والتي تثير اهتمام الشركات الروسية العاملة في مجالات التعدين والطاقة. ناهيك عن الموقع الجغرافي لأفغانستان كمعبر محتمل نحو المحيط الهندي؛ مما يمنح موسكو نافذة جديدة لتوسيع تجارتها وتعزيز صادراتها من الغاز الطبيعي مع دول جنوب وشرق آسيا.
وقد بدأت ملامح التوجه الروسي نحو توثيق التعاون الاقتصادي مع حكومة طالبان تتجلّى بوضوح عقب إعلان موسكو مُؤخرًا رفع الحركة من قائمة التنظيمات الإرهابية، في خطوة فتحت المجال أمام تفعيل مسار اقتصادي جديد مع أفغانستان. ففي 22 أبريل 2025، التقى وزير الطاقة والمياه في حكومة طالبان، الملا عبد اللطيف منصور، بالسفير الروسي في كابول دميتري جيرنوف؛ حيث جرى بحث فرص الاستثمار الروسي في مجالات المياه والطاقة، بما في ذلك مشاريع البنى التحتية الكبرى مثل السدود ومصادر الطاقة المتجددة. وفي السياق ذاته، عُقد اجتماع في 28 أبريل بين المولوي نور الهادي أبو إدريس، نائب محافظ ولاية بلخ وعدد من المستثمرين الروس، إلى جانب ممثلين عن شركة “أفغان أنتيكو أفغاني”، تقدّم خلاله الجانب الروسي بمقترح لإنشاء مصنع متخصص في استخراج النفط والغاز، مُستفيدًا من الموقع الجغرافي الاستراتيجي للمنطقة.
كما شهد قطاع التعدين خطوات مُماثلة، إذ عقد وكلاء وزارة المناجم والبترول الأفغانية في 5 مايو 2025 اجتماعًا مع مستثمرين روس لمُناقشة سُبل التعاون في استغلال مناجم الذهب والزمرد، وأبدت الشركات الروسيّة استعدادها لتقديم الدعم التقني والخبرات الصناعية، مع الالتزام بالأطر القانونية التي تحددها حكومة طالبان. وتُوّج هذا الحراك بعقد اجتماع تنسيقي في 8 مايو 2025 ضمّ مُمثلين عن عدد من الوزارات الأفغانية، خُصص لوضع خطة شاملة لتوسيع التعاون الاقتصادي مع روسيا، تضمّنت مقترحات لزيادة حجم التبادل التجاري وتوجيه الاستثمارات الروسية نحو قطاعات استراتيجية تخدم مصالح الطرفين.
كما تستهدف روسيا رفع حجم التبادل التجاري مع أفغانستان إلى ثلاثة مليارات دولار خلال عام 2025، على أن يصل إلى عشرة مليارات بحلول 2030، وفق ما صرح به رستم حبيبولين رئيس مركز الأعمال الروسي في أفغانستان في أغسطس 2024، وهو ما يعكس طموحًا اقتصاديًا واسع النطاق يتجاوز حدود التجارة التقليدية، ويضع أفغانستان في صلب استراتيجية روسيا الاقتصادية الإقليمية.
خطوة على طريق اكتساب الشرعية
ينطوي قرار روسيا رفع حركة طالبان من قائمتها للتنظيمات الإرهابيّة على أبعاد مُتعدّدة، غير أنّ التداعيات الأهم لهذا القرار تتجلّى في المكاسب السياسيّة والدبلوماسيّة التي تُحققها الحركة، لا سيّما على صعيد كسر عُزلتها الدولية المُتواصلة منذ عودتها للحكم في أغسطس 2021. إذ يُمثّل القرار الروسي سابقة لافتة من قِبل عضو دائم في مجلس الأمن، ويُعزّز من فرص تعامل طالبان مع دول أخرى على نحو رسمي، ويفتح المجال أمامها للمزيد من أشكال الانخراط الدبلوماسي، سواء عبر قُبول مبعُوثيها أو تمكينها من إدارة البعثات الدبلوماسيّة الأفغانيّة في الخارج. وقد استطاعت الحركة تدريجيًا تحقيق بعض الإنجازات في هذا الإطار خلال السنوات الأخيرة، مثل شطبها من قوائم الإرهاب في كازاخستان في ديسمبر عام 2023 وقيرغيزستان في سبتمبر عام 2024، إلى جانب السماح لدبلوماسييها بتولّي مهام السفارات في عدد من الدول المجاورة، بل واعتمادها رسميًا من قِبل الصين، وكازاخستان، كمُمثلين شرعيين للدولة الأفغانية، ولديها حاليًا تمثيل دبلوماسي في 41 دولة حول العالم، بحسب تصريحات وزير خارجيتها، أمير خان متقي، في مُقابله أجراها مع قناة الجزيرة بتاريخ 30 إبريل 2025.
ويعكس الانفتاح المُتدرّج على طالبان -رغم عدم اعتراف أي دولة حتى الآن بحكومتها رسميًا- نمطًا مُتصاعدًا من التطبيع الواقعي مع حكومتها، ويؤشّر على تحوّل في أولويات العديد من العواصم نحو تغليب الحسابات الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية على أي اعتبارات أخرى كتلك المتعلقة بحقوق الإنسان والقضايا الديمقراطية وغيرها. ويبدو أن طالبان تُدرك هذا التحول جيّدًا إذ تسعى إلى استثماره لتثبيت أقدامها سياسيًا، خاصةً وأن القرار الروسي بشطبها من قائمة الإرهاب لا يقتصر على الجانب الرمزي، بل يُترجم كذلك إلى فرص للتعاون الاقتصادي والدبلوماسي وتخفيف القيود المفروضة على الحركة من قبل المجتمع الدولي.
وتأتي هذه التحولات في إطار أوسع تنتهجه طالبان، يقوم على “مقاربة نفعية – براجماتية” تهدف إلى توظيف الديناميكيات الإقليمية والمصالح الدولية المتغيرة لصالح تعزيز شرعيتها. فمن خلال تقديم نفسها كفاعل قادر على الإسهام في الاستقرار الإقليمي ومحاربة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، تسعى الحركة إلى إعادة تعريف صورتها لدى الأطراف الدولية باعتبارها “اللاعب الضروري” الذي لا يمكن تجاوزه في معادلة الأمن الإقليمي. كما تدرك طالبان أن تمسكها الصارم بأيديولوجيتها الداخلية لم يمنع بعض القوى من الانخراط معها وفق حسابات المصلحة، وهو ما يُشجعها على التمسك بسياساتها الداخلية، مع توظيف الورقة الأمنية والدبلوماسية لتعزيز حضورها الدولي دون تقديم تنازلات جوهرية تخص ممارساتها في الحكم.
ويُعدّ تَعامُل الأمم المتحدة مع حركة طالبان في اجتماع الدوحة الثالث للمبعوثين الخاصين إلى أفغانستان برعاية الأمم المتحدة في يونيو 2024، مثالًا دالًا على مدى استفادة الحركة من هذا “الاعتراف الضمني”، بكونها السلطة الفعلية في البلاد، حتى دون اعتراف دولي رسمي بحكومتها، ورغم استمرار العقوبات الدولية عليها. فبعد مفاوضات مطوّلة، نجحت طالبان في فرض رؤيتها للاجتماع، عبر إبعاد ممثلي المجتمع المدني والنساء والمعارضة، وحصر جدول الأعمال في قضايا فنية مثل مكافحة المخدرات والتسهيلات البنكية، باعتبارها الجهة الوحيدة التي تمثل أفغانستان، وهو ما رضخت له المنظمة الأممية، في خطوة اعتبرتها طالبان نصرًا دبلوماسيًا يعكس قبول المجتمع الدولي بحكومتها، ويمهد – من وجهة نظرها – لمزيد من الاعتراف العالمي. ويؤكد هذا المثال أن الانفتاح الدولي على طالبان، حتى وإن كان من باب الضرورة، يعزز موقفها التفاوضي، ويفتح أمامها قنوات تأثير سياسي، في وقتٍ لا تُقدّم فيه أي تنازلات تُذكر في ملفات الحريات العامة، وعلى رأسها ملف حقوق المرأة، وهي ملفات كانت في قلب الشروط الدولية المطروحة للاعتراف بحكومتها.
ختامًا، يُعد قرار روسيا برفع حركة طالبان من قائمة الإرهاب خطوة محورية تفتح أمام الأخيرة آفاقًا أوسع لتحقيق مكاسب دولية، كما يطرح تساؤلات حيوية حول كيفية تعامل المجتمع الدولي مع الحركة في ظل التحولات الراهنة وتغير أولويات القوى الإقليمية والدولية لصالح الحسابات الأمنية والاقتصادية. ويكشف القرار أيضًا عن إحدى الإشكاليات الجوهرية المرتبطة بمفهوم الإرهاب، والمتمثّلة في طبيعته السياسية المتغيرة، إذ بات خاضعًا بدرجة مُتزايدة لحسابات المصالح وتقديرات القوى الدولية، أكثر من ارتباطه بمعايير قانونية أو قيمية ثابتة. وهو ما يُنذر بتكريس نهج انتقائي في التعامل مع مختلف الفواعل المسلحة العنيفة من غير الدول، بما قد يُقوّض الإطار الدولي القائم لمكافحة الإرهاب، ويُضعف من فاعليته ومصداقيته في المستقبل.