السودانيون بين المنفى والعودة.. معادلة معقدة تحكمها المخاوف والانهيار الخدمي

رغم تمكن الجيش السوداني من استعادة السيطرة على أجزاء واسعة من العاصمة الخرطوم وعدد من الولايات الحيوية، ورغم محاولات الحكومة إعادة مؤسسات الدولة إلى العمل تدريجيًا، لا تزال العودة إلى الوطن قرارًا صعبًا لمعظم السودانيين اللاجئين في الخارج، فالمشهد المعقد في الداخل السوداني، بعد عامين من حرب مدمّرة، لا يوفّر الضمانات الكافية للعودة الآمنة، ولا يبدد قلق من عاشوا في ظروف أكثر استقرارًا بالخارج.
فالحنين إلى الديار حاضر بقوة في وجدان السودانيين، لكنه يصطدم بجدار من المخاوف الواقعية: الانفلات الأمني في بعض المناطق، وانتشار السلاح بشكل عشوائي، واحتمال استهداف فئات مهنية معينة مثل الصحفيين والعاملين في الشأن العام، فضلًا عن انهيار شبه كامل في الخدمات الأساسية، من تعليم وصحة إلى مياه وكهرباء، ما يجعل الحياة اليومية – خاصة بالنسبة للعائلات – عبئًا ثقيلًا يصعب تحمّله.
وتزداد هذه التحديات تعقيدًا مع حالة الغموض السياسي والميداني، فالكثير من المناطق التي استعادتها القوات النظامية لا تزال غير مهيأة لعودة اللاجئين، فبعضها يفتقر لفرق إزالة الألغام ومخلفات الحرب، في حين تلوح مخاوف التجنيد – وإن كانت حالات نادرة – في الأفق، مما يضع آلاف السودانيين أمام معادلة صعبة: الاستمرار في حياة مؤقتة بالمنفى، أم المغامرة بالعودة إلى واقع غير مضمون.
وعلى الجانب الاقتصادي، لعب الاستقرار النسبي في دول مثل مصر دورًا في تأجيل قرارات العودة، فالكثير من السودانيين هناك وجدوا فرصًا للعمل والتعليم، وبدأ بعضهم بالتفكير بعقلية استثمارية عابرة للحدود، ما يجعل العودة قرارًا لا يرتبط بالأمان فقط، بل أيضًا بإمكانية إعادة بناء حياة من جديد في وطن لا يزال يتعافى من جراحه.
وتختلف الروايات، لكن المشهد العام يرسم صورة مركبة من الأمل والحذر، حيث يطغى هاجس الأمن، وانهيار البنية التحتية، وخطر الاستهداف، خاصة للعاملين في المجال الإعلامي، وفي هذا التقرير، التقت "نيوز رووم" بعدد من السودانيين المقيمين في القاهرة، الذين شاركونا تجاربهم، ومخاوفهم، وآمالهم.

من القاهرة.. أصوات سودانية تعكس الحيرة
لخص عماد السنوسي، أحد اللاجئين السودانيين في مصر، الوضع بقوله: "الرجوع للسودان مو سهل، والمخاوف أكبر من مجرد قرار"، موضحًا أن استمرار الهجمات بالطائرات المسيّرة من قوات الدعم السريع، وانهيار الخدمات الأساسية، وغياب التغطية الأمنية في بعض المناطق، كلها عوامل تجعل العائدين يفكرون مليًا قبل اتخاذ القرار.
ورغم ذلك، أشار السنوسي إلى أن الحكومة استعادت السيطرة على 89 قسم شرطة من أصل 98 في ولاية الخرطوم، وتم تفعيل الخلايا الأمنية لحماية السكان، كما عادت مؤسسات رسمية إلى العمل، رغم حجم الدمار الكبير.
الصحفيون.. بين الاستهداف والمقاومة
من جانبه، أعرب الصحفي السوداني المقيم في القاهرة، سيف البروف، عن خشيته من العودة، قائلاً: "في بداية الحرب كنا مستهدفين من الطرفين حتى وإن كنت محايدًا"،مضيفًا أن الصحفيين كانوا من أكثر الفئات استهدافًا بسبب دورهم في كشف انتهاكات الدعم السريع، مشيرًا إلى تقارير تفيد بتمويل إعلامي خارجي لصالح المليشيات.
وتُظهر الإحصاءات المأساة التي واجهها العاملون في الإعلام مقتل 31 صحفيًا خلال عامين، واعتقال أو احتجاز 239 آخرين، فضلًا عن 556 حالة انتهاك موثقة منذ اندلاع الحرب.
كما يعاني أكثر من 1000 صحفي من التوقف القسري عن العمل أو الإحالة للتقاعد دون تسوية عادلة، فيما يعيش أكثر من 500 منهم في الخارج وسط ضغوط قانونية ومادية، لكنهم لا يزالون متمسكين برسالتهم في نقل الحقيقة.

بين خيار البقاء القسري والعودة القسرية
يروي المواطن أحمد إسماعيل تجربته، مشيرًا إلى أن غالبية العائدين يفعلون ذلك مضطرين بفعل الضغوط الاقتصادية، لا بسبب استقرار الأوضاع في الداخل، موضحًا: "الناس راجعة على بيوت مهدومة، وما في خدمات إلا في الخرطوم المحررة".
وأضاف أن المناطق التي يُعتقد أنها آمنة، مثل دنقلة ونهر النيل، لا تزال تتعرض لهجمات مسيّرة.
عودة حذرة ولكن تصاعدية
عادل الصول، لاجئ سوداني آخر في مصر، أشار إلى أن العودة بدأت تأخذ طابعًا تدريجيًا، مع تسجيل حوالي 20 حافلة تعود يوميًا من مصر إلى السودان، إلى جانب من يستخدمون القطار إلى أسوان ثم العبارات البحرية، مؤكدًا أن بعض العائلات تفضل البقاء في مصر بسبب الاستقرار الوظيفي، لكن تحسن الأوضاع في عدد من المدن بعد العيد قد يزيد من عدد العائدين.
بين الاستقرار الاقتصادي والتفكير الاستثماري
أما رئيس الجالية السودانية في مصر، أحمد عوض، فقد أكد أن العودة لا تعني التخلي عن الاستقرار في مصر، وأن كثيرين ينظرون إلى الأمر من زاوية استثمارية مستقبلية، مشيرًا إلى أن البعض بدأ مشاريع في مصر، ويخطط للتوسع لاحقًا في السودان بعد استقرار الوضع.
وشدد رئيس الجالية السودانية في مصر، على أن من تورط في دعم المليشيات المسلحة لا يفكر في العودة، في حين أن الأغلبية هم مواطنون عاديون، تربطهم علاقات طيبة مع الشعب المصري.

عودة مدفوعة بتحسن الأوضاع
أفادت منظمة الهجرة الدولية بأن أكثر من 165 ألف سوداني عادوا من مصر إلى السودان منذ اندلاع الحرب، منهم 50 ألفًا في أبريل وحده. وأوضحت أن 82% من هؤلاء دخلوا عبر معبر أشكيت، مستفيدين من التسهيلات التي قدمتها السلطات المصرية، مع تسيير رحلات بأسعار رمزية إلى وادي حلفا.
وأشارت البيانات إلى أن أغلب العائدين من سكان الخرطوم بنسبة 71%، تليهم ولاية الجزيرة بنسبة 22%.
تحفظ رسمي
رغم حساسية الملف، رفضت البعثة الدبلوماسية السودانية في القاهرة التعليق على أوضاع العائدين، فقد امتنع القنصل العام عبد القادر عبد الله عن الإدلاء بأي تصريحات، بحسب ما أفادت به سكرتيرته، مشيرة إلى عدم وجود تفويض رسمي من وزارة الخارجية السودانية للحديث في هذا الشأن، ما يعكس تحفظًا ملحوظًا تجاه تناول ملف العودة في وسائل الإعلام.
وفي النهاية، يرسم هذا المشهد السوداني صورة متشابكة، يتداخل فيها الأمل بالحذر، والاستقرار النسبي بالخوف من المجهول، وبين من عادوا لأسباب قسرية، ومن ينتظرون لحظة مناسبة للعودة، يظل القرار رهينًا بمعادلات معقدة، لا ترتبط فقط بالأمن أو الخدمات، بل أيضًا بإرادة سياسية ومجتمعية حقيقية لاحتواء الشتات وإعادة بناء الوطن.