جميلة هي القهوة على صوت فيروز، لكنها أجمل ألف مرة حين تُشرب في هدوء، بعيدًا عن ضجيج الأطفال الذي لا ينقطع. أعود بذاكرتي سنوات إلى الوراء، إلى تلك الأيام التي كنتُ فيها أجلس على مقهى هادئ في الزمالك، أحتضن فنجان قهوتي، وأفتح جهازي المحمول للعمل على تحقيق صحفي يحتاج تركيزًا عاليًا. كان الهدوء رفيقي، وعندما يتعالى صوت الشباب على الطاولة المجاورة، أتوجه إليهم بلطف وأطلب خفض الصوت، فعملي لا يحتمل التشتت.
كنتُ أظن أنني متعبة. أشتكي من العمل الصحفي المجهِد، من التحقيقات المعقّدة، من صعوبة التركيز في مقهى مزدحم في الزمالك بينما أُعدّ تقريرًا يحتاج دقة ومراجعة. كان يكفي أن يتعالى صوت الطاولة المجاورة، لأذهب وأطلب بلطف خفض الصوت، فأنا "أعمل". كنت أمتلك وقتي، وحق الاعتراض، وقدرة الهروب من الضوضاء. آنذاك، كانت القهوة على (رواقة) لحظة مقدسة تبدأ بها يومي، تلك التفاصيل الصغيرة شكلا عالمي.
لم أكن أعلم أن ما كنت أراه إجهادًا هو في الحقيقة وجه من وجوه الرفاهية. لم أكن أتخيل أنني سأشتاق يومًا لصوت الضوضاء المعقول، لصوت البشر، وليس صوت الأطفال حين يصرخون في وقت واحد، كلٌ يطالب بشيء، فيما تطاردني رسالة من العمل، واتصال من زميل، وموعد تسليم يقترب.
اليوم، أعيش في صراع دائم. أكتب تحت الضغط، أحرر نصوصًا بينما طفل يتشبث بي، وآخر يرفض تناول طعامه، والتلفاز يصدح بلا توقف. أصبحت المشتتات جزءًا من يومي. أتنقل بين الأدوار كمن يسير على حبل مشدود: أم، زوجة، صحفية، طاهية، مربية، موظفة خدمة عملاء، طبيبة طوارئ أحيانًا… ولا مجال للخطأ. أي هفوة قد تُفسّر على أنها تقصير، أي تأخير قد يُكلفني فرصة أو يُهدد عملي.
والمفارقة أنني لم أتوقف عن العمل. لم آخذ "إجازة أمومة" بالمعنى الفعلي. أنا أكتب، أتابع، أقدّم، وأحاول أن أبقى كما كنت. لكن الحقيقة أنني لم أعد كما كنت. أعصابي واهنة، ذهني مثقل، وقلبي ممتلئ بتساؤلات صامتة. أحيانًا أسأل نفسي: هل تستحق الأمومة كل هذا؟ أشعر بالضجر، بالوحدة، وبثقل لا يرى كثيرون حمله. أحيانًا أغني لأطفالي، أهادنهم، أبتسم، بينما تنهمر الدموع من عيني. لا لأنني ضعيفة، بل لأنني مرهقة. مرهقة حد الإنهاك.
أذكر مرة، قالت لي صديقة: "أشعر أنني أختفي بالتدريج… لا وقت لي لأتنفس، ولا أحد يلاحظ". جملتها علقت في ذهني، لأنني أعيشها كل يوم.
وحين يُطرح عليّ خيار "الاستعانة بمربية" لتخفيف الحمل، أشعر وكأنني على وشك اقتراف ذنب أخلاقي. ليس لأن المربية خطأ، بل لأنني أؤمن أن وجودي مع أطفالي، تربيتهم بيدي، هي حقهم الأصيل عليّ، وهي جوهر الأمومة كما أراها. أن أُسند هذه المهمة لغيري ــ ولو بدافع النجاة ــ هو خذلان لهم. خذلان لا يُغتفر في نظري، حتى لو سامحوني هم لاحقًا. لست وحدي. الأرقام تُؤكد أن ما نمر به كأمهات عاملات ليس استثناءً، بل أزمة ممتدة.
بحسب دراسة نُشرت في مجلة Journal of Family Psychology، فإن الأمهات العاملات يُعانين من مستويات توتر أعلى بنسبة 40% مقارنة بغير العاملات، ويشعرن بالإرهاق المستمر بسبب الضغط اليومي المتواصل، خاصة مع غياب الدعم الكافي داخل الأسرة أو في بيئة العمل.
وفي دراسة حديثة أجرتها Pew Research Center في الولايات المتحدة، قالت 74% من الأمهات العاملات إنهن يعانين من صعوبة "تحقيق التوازن" بين الوظيفة ورعاية الأطفال، بينما عبّرت 55% منهن عن شعور دائم بالذنب تجاه تقصيرهن في أحد الجانبين. أما دراسة بريطانية أجرتها مؤسسة Bright Horizons، فقد أظهرت أن 78% من الأمهات يشعرن بأن "أحدًا لا يقدّر حجم ما يفعلنه"، بينما قالت واحدة من كل ثلاث أمهات إنها "تنهار بالبكاء مرة أسبوعيًا على الأقل" بسبب الضغط النفسي.
هذه ليست أرقامًا عابرة. إنها تشريح دقيق للحالة النفسية التي نعيشها، وتأكيد أن التعب ليس شخصيًا، بل اجتماعي وهيكلي أيضًا.
لا نطلب معجزات، ولا نطمح في مدينة فاضلة. نحن فقط نريد أن نُرى. أن يُعترف بتعبنا، أن يُؤخذ في الحسبان أننا نحمل أدوارًا مضاعفة تفوق طاقة الإنسان. نحتاج إلى نظم عمل أكثر مرونة تراعي ظروف الأمهات، إلى شراكات أسرية حقيقية لا تضع العبء كله على طرف واحد، إلى بيئة تُشجع لا تُحاسب، إلى مجتمع لا يُمجد تضحية الأم لدرجة إنكار إنسانيتها.
أكتب هذا النص على عجل، وبين كل فقرة وأخرى، أُمسك كوب قهوتي الذي برد منذ نصف ساعة، أوقف الشجار بين طفلين، أغيّر حفاضة، أعود إلى الجهاز، أُكمل السطر… بينما في الخلفية أغنية فيروز تُقاوم الغرق وسط الضجيج.