عاجل

منذ آلاف السنين، حينما كان العالم في طور الاكتشاف، وقفت مصر شامخة على خريطة الحضارة، تحمل أسرارها وجلالها في حضن النيل ودفء الشمس. لم تكن مصر مجرد محصلة جغرافية لبلد عريق، بل كانت ولا تزال، مصدر إلهام وانبهار لكل من وطئت قدماه أرضها، خاصة أولئك الرحالة اليونانيين الذين فتحت لهم مصر ذراعيها، وخلّدت زياراتهم في نصوص لا يزال بريقها حاضرًا حتى اليوم.

يُعتبر "هيرودوت" الذي وُلد في القرن الخامس قبل الميلاد من أوائل الذين زاروا مصر ودوّنوا مشاهداتهم بإعجاب شديد. ففي كتابه الشهير "التاريخ"، أبدى انبهاره بعظمة المعابد وتعقيد طقوس التحنيط، كما أشار إلى التقدم المصري في العلوم ونمط المعيشة اليومي. لم يخف دهشته من عظمة النيل ونظام الري والزراعة، وقال عبارته الشهيرة "مصر هبة النيل" التي لم تكن مجرد وصف جغرافي، بل اختزال لفلسفة مصر القديمة التي أقامت حضارتها على ضفاف هذا النهر الخالد. ومع ذلك، فإن هذه المقولة تقلل من عظمة دور المصري القديم في صنع حضارته، إذ كما كانت "مصر هبة النيل" كانت أيضًا "مصر هبة المصريين" الذين شيدوا حضارة فريدة لم يتمكن أي من شعوب حوض النيل الأخرى من مجاراتها، رغم أنهم يشاركونها ذات النهر.

أما "سترابو"، الجغرافي والمؤرخ اليوناني المعروف الذي زار مصر في القرن الأول قبل الميلاد، فقد قدم وصفًا دقيقًا لطبيعة مصر ومدنها، مشيدًا بعمران الإسكندرية وروعة تنظيمها. وصفها بأنها "ملتقى العالم" حيث تمازجت الثقافات وتنوعت الأعراق، وأبدى إعجابه بمكتبة الإسكندرية وكتب قائلاً: "لم أر موضعًا للعلم والفكر يماثل ما وجدته هنا".

أما في كتابه "المكتبة التاريخية"، فقد نقل "ديودور الصقلي" رؤيته لمصر كمهد للحكمة والمعرفة، فقال: "إن المصريين هم أول من وضع أسس القانون وتفوقوا في العلوم والفنون، وقد تعلم الإغريق الكثير منهم". وركز "ديودور" على مكانة الكهنة ودورهم في الحياة الفكرية، معتبرًا إياهم خزائن الأسرار العلمية والدينية التي كانت تدرس في معابد منف وطيبة وهليوبوليس.

وفي رسالته عن "إيزيس وأوزوريس"، قدم "بلوتارخ" تفسيرات رمزية للأساطير المصرية، معتبراً إياها تجسيدًا لمعان فلسفية. يقول: "المصريون لا يعبدون التماثيل، بل القوى الطبيعية والعقلية التي تمثلها". ويبرز هنا إدراك "بلوتارخ" لمصر كمنظومة رمزية كونية تحول الطقوس والآلهة إلى مفاهيم فلسفية؛ فيربط بين "إيزيس" والحكمة، و"أوزوريس" بالحق، و"ست" بالفوضى، فتتجلى الهوية الدينية والفكرية المصرية كنسق قابل للفهم الفلسفي لا كمجرد طقوس مكررة.

إن رحلات هؤلاء الإغريق العظام لم تكن عبورًا عابرًا في التاريخ، بل كانت فصولًا من حوار فريد بين عقل متسائل ووجدان ضارب في أعماق الزمن. لقد أحدث هذا اللقاء بين الشرق والغرب جسراً حضاريًا ثريًا ساهم في نقل علوم وفنون مصر القديمة إلى اليونان ومنها إلى العالم، مانحًا الحضارة الإنسانية أحد أهم منابعها.

تم نسخ الرابط