منذ عقود، ظل قانون الإيجار القديم واحدا من أعقد الملفات الاجتماعية والتشريعية في مصر، ملف شائك ومتشابك، تتقاطع فيه حقوق المالك والمستأجر، وتتراكم فيه آثار تاريخية لقرارات وتشريعات استثنائية صدرت في أزمنة مختلفة، كان الهدف منها حماية الطبقات الفقيرة والمتوسطة من تقلبات السوق، لكنها تحولت مع مرور الوقت إلى عبءٍ على العدالة، ونقطة خلاف مجتمعي يتطلب الحسم بقدر من الحكمة والمسؤولية.
إن معالجة قانون الإيجار القديم اليوم ليست مجرد خطوة قانونية، بل هي عملية جراحية دقيقة تمس آلاف الوحدات السكنية والمحال التجارية، وتتطلب قراءة متأنية للماضي، ورؤية شاملة للمستقبل، تحفظ التوازن بين أطراف العلاقة الإيجارية، وتعيد الحقوق لأصحابها دون الإخلال بالاستقرار الاجتماعي أو الأمن السكني.
لقد نشأ قانون الإيجار القديم في ظروف استثنائية، ومع التوسع في تدخل الدولة لتحقيق التوازن الاجتماعي، وتثبيت أسعار الإيجارات في ظل أزمات السكن وارتفاع الأسعار في حينه، كان القانون ضرورة لحماية فئات واسعة من المواطنين لكن الإبقاء عليه على حاله، بعد أن تغيرت الظروف الاقتصادية والاجتماعية، بات أمرا مجحفا.
إن الواقع الحالي يكشف عن خلل واضح في معادلة العلاقة بين المالك والمستأجر، فهناك وحدات مؤجرة منذ عشرات السنين بجنيهات قليلة، لا تتناسب لا مع قيمة العقار الحقيقية ولا مع أسعار السوق، مما يحرم المالك من حقه في الاستفادة العادلة من ملكه، ويفقده الحافز على الصيانة والتطوير في المقابل، هناك مستأجرون يقطنون في وحدات ممتازة بمواقع استراتيجية، بينما يعجز الشباب عن الحصول على سكن مناسب بسبب ندرة المعروض وارتفاع الأسعار.
وقد أدى هذا الخلل إلى تجميد عدد كبير من الأصول العقارية خارج الدورة الاقتصادية، وحرمان الدولة من تحصيل ضرائب عادلة، فضلا عن حرمان الأجيال الجديدة من فرص الاستفادة من هذه العقارات؛ نحن أمام تشوه في السوق العقارية يجب تصحيحه بحلول متدرجة وعادلة.
لا بد أن نعترف بأن هناك تباينا بين الحالات فالوحدات السكنية تختلف عن المحال التجارية، كما تختلف الوحدات المؤجرة لأغراض غير سكنية مثل العيادات والمكاتب ومن هنا تأتي أهمية التشريع الجديد المزمع صدوره بأن يتعامل مع كل حالة بحسب طبيعتها.
ولعل أبرز ملامح التوجه الحالي هو الاتجاه لتطبيق زيادة تدريجية في الإيجار، تصل خلال سنوات محددة إلى القيمة العادلة أو السوقية، مع إمكانية تمليك بعض الوحدات المستأجرة مقابل تعويض مناسب، أو دخول الدولة كشريك في تمويل بدائل سكنية للفئات غير القادرة، وهذا يتطلب دعما حكوميا عبر برامج "حياة كريمة" و"سكن لكل المصريين"، لاحتواء الآثار الاجتماعية المحتملة، وتوفير مظلة حماية اجتماعية للمستأجرين الأشد احتياجا، حتى لا تتحول العدالة إلى عبء على محدودي الدخل.
إن إصلاح قانون الإيجار القديم ليس فقط استحقاقا تشريعيا، بل هو ركيزة لإصلاح المنظومة العمرانية والاقتصادية بشكل عام، إنه يفتح الباب أمام تدوير الثروة العقارية، وتحفيز الاستثمار، وتوسيع قاعدة تملك السكن، وتعزيز كفاءة استخدام الأراضي والعقارات، وفي ضوء توجه الدولة نحو تطوير العشوائيات، وتحسين نوعية الحياة في المدن القديمة، فإن إعادة النظر في هذا القانون تمثل فرصة لإحياء وسط المدينة، وتحفيز الملاك على ترميم المباني التراثية، وإنشاء شراكات جديدة تضمن استدامة التطوير العمراني.
كلمة أخيرة... العدالة لا تتحقق بالشعارات، بل بالتوازن المدروس بين الحقوق والواجبات وفي ملف الإيجار القديم، نحن أمام فرصة تاريخية لإصلاح تشريعي طال انتظاره، بشرط أن نضع نصب أعيننا مصلحة الوطن والمواطن معا فالمستأجر ليس خصما للمالك، وكلاهما ضحية تأخر الإصلاح، والتشريع العادل هو ما يضمن حق السكن الكريم، وحق التملك المشروع، ويصون كيان الأسرة المصرية في مواجهة التحديات الاقتصادية، لذلك أدعو كل الأطراف، حكومة وبرلمانا ومجتمعا مدنيا، إلى أن نتعامل مع هذا الملف بروح من التوافق، وأن نجعل من هذه الخطوة نموذجا لتشريعات تحقق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة معا.