فى قلب معبد "حتحور" بمدينة "دندرة" بمحافظة "قنا" فى صعيد مصر ، وقف رسام الحملة الفرنسية "فيفانت دينون" مبهورًا أمام "دائرة أبراج دندرة" والتي تُعد من أقدم وأعقد التصويرات السماوية فى العالم ، وبالرغم من الظلام الدامس الذي كان يُغطي المكان إلا أنه لم يترك المعبد قبل اكتمال رسمه لهذه الدائرة ، فهى ليست مُجرد خريطة فلكية قديمة بل هى تجسيد لعلم متكامل يُبرز مدى تقدم المصريين القدماء فى علم الفلك وربطه بالطقوس الدينية.
ترجع الأصول الأولى لمعبد "دندرة" إلى عصر الأسرة الرابعة ، أما المعبد الحالي فيرجع للعصرين اليوناني والروماني ، ابتداءً من عهد "بطلميوس التاسع" وانتهاءً بعهد الامبراطور الروماني "تراجان".
تُصور "دائرة أبراج دندرة" السماء كما رآها المصري القديم ، وتحتوي على الاثني عشر برجًا الفلكية ، بالإضافة إلى رموز للنجوم والكواكب ومراحل القمر ، بالإضافة إلى تصورات لآلهة تُجسد حركة الأجرام فى قبة السماء ، وهو ما يُشير إلى أن المصريين القدماء لم يكونوا مجرد مراقبين للسماء بل قاموا بتدوين وتحليل الظواهر الفلكية بدقة مذهلة. وقد صُور (برج الأسد) على هيئة أسد يسحق بقدمه ثعبان ومن خلفه امرأة ، وصُور (برج الدلو) بهيئة رجل يسكب الماء من انائين , وصُور (برج الحوت) على هيئة سمكتين بحجم كبير بينهما حوض ماء ، بينما صُورت باقي الأبراج بطريقة مُشابهة للأبراج اليونانية ، وقد صُور (نجم الشعري اليماني) على هيئة المعبودة "إيزيس" وهى نائمة فى قارب وعلى رأسها نجمة. وما يُميز "دائرة أبراج دندرة" هو كونها دائرية بالكامل ، على خلاف معظم النقوش المصرية التي تميل إلى الشكل الطولي أو الأفقي.
بعد انتهاء الحملة الفرنسية قام "دينون" بنشر رسمه لــ "دائرة أبراج دندرة" فى كتابه الذي ألفه عن مصر ، وهو ما احدث جدلًا واسعًا حول مدى قدمها ، فقام أحد المغامرين الفرنسيين ويدعى "سيباستيان سولنييه" بتتبع الدائرة إلى مصر ، وقام عام 1821 بنزع الدائرة من سقف المعبد باستخدام المناشير والرافعات ، ثم تم شحنها إلى فرنسا حيث استقرت فى النهاية بمتحف اللوفر حتى يومنا هذا. وقد أثار هذا النقل جدلًا واسعًا ، ومع تزايد الوعي العالمي بأهمية استرداد القطع الأثرية المنهوبة ، أصبحت "دائرة أبراج دندرة" ضمن القطع المُطالب بعودتها إلى مصر.
كانت السماء بالنسبة للمصري القديم ليست فقط مصدرًا للمعرفة بل موطنًا للآلهة ، ولذا فإن الأبراج والكواكب لم تكن مجرد أجرام سماوية ، بل كيانات روحية تؤثر على الحياة اليومية وتُدمج ضمن الطقوس الدينية ، و"دائرة أبراج دندرة" هى تمثيل لهذا التداخل العميق بين العلوم والروحانيات فى مصر القديمة.
وتظل "دائرة أبراج دندرة" رمزًا خالدًا على عبقرية المصري القديم فى علم الفلك ، وتُمثل واحدة من أندر الخرائط السماوية التي عرفها التاريخ القديم ، وتبقى شاهدة على حضارة تسبق زمانها بآلاف السنين ، وتُثير إعجاب كل من يقرأ رموزها أو يتأملها.