لم تكن العدالة فى مصر القديمة مجرد تشريع يُسن ، بل كانت تجسيد لــ "ماعت" (ربة العدالة) التي كانت حاضرة فى كل إجراء قضائي يُعمل وفى كل قسم يُؤدى ، وحين ننظر إلى بنية الدولة المصرية القديمة نجد أن القضاء لم يكن منفصلًا عن العقيدة ، بل امتدادًا لها فى منظومة جعلت من (الحق) حجر الزاوية فى استمرار الدولة.
ترجع أولى إشارات التنظيم القضائي الرسمي إلى عصر الأسرة الثالثة ، ولم يكن هناك قانون مكتوب بالمفهوم الحديث وقتها ، بل مجموعة من الأعراف والتقاليد الموروثة ، يحكم بها قضاة يُختارون من بين الكتبة وكبار الإداريين.
مع تطور الدولة المصرية القديمة ظهر شكلًا أكثر تنظيمًا للقضاء ، فأصبحت توجد محاكم محلية فى المقاطعات للفصل فى المنازعات اليومية ، وكان يترأسها "حاكم المقاطعة" ، وكانت محكمة تتألف من أشراف يطلق على كل منهم لقب )سر( وكانوا يجلسون فى المحكمة بصفتهم قضاة ، وفى العاصمة وُجد ما يشبه المحكمة العليا تختص بالقضايا التي تستعصي على الحل بالمقاطعات المصرية.
كان القاضي يُدون ملاحظاته القضائية ، وتُحفظ هذه الملاحظات فى الأرشيفات الملكية ، ومن أشهر هذه الوثائق هى القضية الشهيرة التي أطلق عليها (قصة الفلاح الفصيح) ، وهى تتناول شكوى فلاح رفع مظلمته ضد مسئول حكومي مرارًا أمام القضاة دون يأس حتى نال كامل حقه ، وهى وثيقة نادرة تسرد تفاصيل المرافعة كاملة ، وتدل على وجود إجراءات واضحة لتقديم الشكاوى والاستئناف. وكانت المرأة فى مصر القديمة قادرة على المُثول أمام القضاء ، بل والتقاضي بحقوقها كاملة ، من زواج وميراث وعقود بيع.
تدرج العقاب فى مصر القديمة وفقًا لنوع الجريمة ، فالسرقة قد تعني الجلد أو مضاعفة التعويض ، إلا أن العدالة لم تكن انتقامية ، بل كانت إصلاحية فى جوهرها ، وكان للقضاة صلاحيات تقديرية ، يُراعى فيها السياق والدوافع وحتى الحالة الاجتماعية للجاني ، وقد وثقت بعض النصوص حالات تم فيها التماس العفو الملكي ، وقُبلت التماسات من المحكوم عليهم.
كان المصري القديم يقيم العدل فى كل افعاله فيذكر "رمنو كا" كبير كهنة الملك "منكاورع" داخل مقبرته بالجيزة "لم يحدث قط أني اغتصبت أي شيء من أي إنسان لهذا القبر" ، وربما لا يوجد ما يعكس احترام المصري القديم للعدالة أكثر من مشهد "محكمة المتوفى" فى كتاب الموتى ، حيث يُوزن قلب المتوفى أمام ريشة "ماعت" ، ويُنطق بالحكم الأبدي إما إلى الجنة وإما إلى الجحيم.
لم يكن نظام القضاء فى مصر القديمة جامدًا أو مفرغًا من الروح ، بل كان حيًّا ومرتبطًا بالناس والمعبودات ، ولقد وضع المصري القديم حجر الأساس لفكرة الدولة التي تُبنى على الحق ، وسبق غيره فى تصور العدالة كفضيلة إنسانية وكونية ، فهى قصة حضارة آمنت أن ميزان العدل لا يُحمل فقط فى يد القاضي ، بل فى ضمير الأمة.