تحكي قلعة الجبل، أو كما تُعرف بقلعة صلاح الدين، قصة مدهشة تختزل تاريخ مصر عبر عصورها المختلفة؛ إذ تجمع بين الطابع العسكري والديني والمدني. بدأت هذه القلعة مسيرتها المهيبة عندما شرع السلطان صلاح الدين الأيوبي في بنائها عام 573هـ/1176م برعاية وزيره المخلص بهاء الدين قراقوش. ورغم وفاة السلطان، استُكملت أعمال البناء في عهد الملك الكامل عام 604هـ/1207م، وظلت القلعة تتطور معماريًا وعمرانيًا على مدار العصور وحتى يومنا هذا.
كانت الغاية الأولى من تشييد القلعة أن تكون حصنًا ضد أي هجوم خارجي ومركزًا لجيش الدولة، إلا أنها سرعان ما أصبحت مقرًا لحكم البلاد منذ عهد الملك الكامل وحتى عصر الخديوي إسماعيل. وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر في عام 1882 م، اتخذها الإنجليز مقرًا لقواتهم العسكرية.
تنقسم القلعة إلى قسمين رئيسيين: القسم الشمالي الشرقي الحربي، وهو أصل بنائها، والقسم الجنوبي الغربي السكني، ويفصل بينهما سور يُعرف بـ"باب القلة". في أرجاء القلعة تنتشر عمائر عظيمة ذات طراز فريد، منها الحربية كالأبراج والأسوار، والدينية مثل جامع الناصر محمد بن قلاوون وجامع محمد علي، والمدنية كقصر الجوهرة والقصر الأبلق. كما تضم القلعة مرافق مائية كالصهاريج وبئر يوسف الشهير، فضلًا عن المتاحف كالمتحف الحربي ومتحف الشرطة.
أنشأ جامع الناصر محمد بن قلاوون عام 718هـ/1318م ليصبح جامع الدولة الرسمي ويُعرف لاحقًا بـ"جامع الخطبة". تم تجديد أجزاء منه عام 735هـ/1334م. إلا أن دوره تبدل في عهد الاحتلال البريطاني، حيث استخدم كمخزن. يضم الجامع صحنًا مكشوفًا ومئذنتين فريدتي الطراز بتصميم يجمع بين جمال العمارة ووظيفتها الدفاعية. منذ عام 1902م خضعت المبنى للعديد من عمليات الترميم.
يقف جامع محمد علي شامخًا ليُخلّد مؤسس الأسرة العلوية، محمد علي باشا، الذي شرع في بنائه عام 1246هـ/1828م واستكمله من بعده حكام الأسرة. اشتهر بعدة أسماء، منها "جامع الألباستر" و"جامع القلعة"، ويستمد تصميمه من مسجد السلطان أحمد في إسطنبول. مآذن الجامع ترتفع حتى 84 مترًا، وكسيت جدرانه بالرخام الألباستر، ليصبح من أبرز معالم القلعة. شهد المبنى ترميمات كبرى في عهد الملك فؤاد والملك فاروق، ليظل حارسًا على تاريخ القاهرة.
أما بئر يوسف، فقد حُفر بأمر من صلاح الدين وبرعاية وزيره قراقوش لتوفير المياه العذبة للقوات، وقد أٌعيد تصميمه ليستوعب التقنية العسكرية حينئذ. تعتبر طريقة حفره حلزونية الشكل معجزة معمارية، مما أكسبه ألقابًا مثل "ساقية الحلزون" و"بئر القلعة".
بُني مسجد سليمان الخادم، المعروف أيضًا بـ"سارية الجبل"، قبل إنشاء القلعة ذاتها عام 535هـ، ثم أعيد تضمينه ضمن معمار القلعة خلال بنائها. يعد المسجد أول نموذج للعمارة العثمانية بمصر. مئذنته الرشيقة تنتهي بقمة مخروطية مغطاة ببلاطات القاشاني، ليعكس هيبة عثمانية خلابة.
تروي المتاحف داخل القلعة قصصًا خالدة. أُنشئ متحف الشرطة داخل القلعة وافتُتح في 25 يناير 1986م ليحكي قصة الشرطة المصرية عبر العصور. يضم المتحف قاعات عرض تحوي تماثيل ومجسمات ووثائق تسلّط الضوء على بطولات قوات الأمن في حماية مصر.
يقع المتحف الحربي في القسم الحربي من القلعة بأمر من محمد علي باشا عام 1826 م. صُمم بأسلوب فخم بألوان وزخارف مذهلة، ليكون شاهدًا على إنجازات العسكرية المصرية. تحول القصر إلى متحف عسكري عام 1949م، حيث يحتفظ برونق الماضي ويعرض أمجاد الجيش المصري.
تظل الأبراج المنتشرة في القلعة، مثل برج الرملة وبرج الحداد، شاهدًا على عبقرية العمارة الدفاعية. برج الرملة، الذي يعود إنشاؤه لعهد صلاح الدين، يتميز بفتحات وأحجار تُظهر روعة العمارة الدفاعية. أما برج الحداد، فهو هيكل ضخم يحتوي على ممرات ووحدات معمارية معقدة، ويُشهد له الحاليون بروعته.
بهذه المعالم التي تجمع بين العراقة والتراث، تظل قلعة صلاح الدين الأيوبي إحدى أعظم شواهد التاريخ المصري والإسلامي، ملهمة كل من يتأملها.