مفتي الجمهورية: الدين ليس مجرد طقوس أو شعائر (فيديو)

أكد الدكتور نظير عياد، مفتي الديار المصرية، أن الادعاء بعدم الحاجة إلى الدين والاكتفاء بالمشتركات الإنسانية هو شبهة قديمة متجددة، يلجأ إليها البعض ممن ينظرون إلى التعاليم الدينية على أنها عائق أمام تحقيق الأهواء والرغبات.

وأوضح مفتي الديار المصرية، خلال حوار مع الدكتور عاصم عبد القادر، خلال حلقة برنامج "مع المفتي"، المذاع على قناة الناس اليوم الجمعة: "خلينا نقول إن هذا الموضوع لم يكن وليد هذا العصر، وإن هذه المقولة ليست جديدة، بل هي شبهة قديمة متجددة يلجأ إليها البعض ممن ينظرون إلى التعاليم الدينية على أنها حاجز يمنعهم من الانطلاق نحو تحقيق الأهواء والرغبات، حسب ما يدّعون".
وتابع: "لكن الواقع أن الإنسان، مركّب من جانبين: جانب مادي له أوصافه، وله غذاؤه الخاص، وله أشواقه ورغباته، وجانب معنوي أو روحي يحتاج أيضًا إلى ما يغديه من قيم ومعانٍ ومسلك، بالتالي، وجدنا أن أكثر الجماعات الهمجية، وأقربها إلى عدم التحضر والتمدن، تلتمس قوة تلجأ إليها وقت الشدة، وتبحث عنها عند الحاجة، حتى إننا وجدنا علماء ومفكرين، مسلمين وغير مسلمين، ملحدين وغير ملحدين، ينتهون إلى هذه النتيجة: أن في الطبع الإنساني جوعًا إلى الدين، تمامًا كجوع المعدة إلى الطعام".

التاريخ الإسلامي
وأكمل: "يمكنك إدراك أهمية الدين، وأن الحياة لا تستقيم إلا به، من خلال عدة أمور، أولها: القراءة المتأنية للتاريخ الإنساني، وأنا هنا لا أتحدث فقط عن التاريخ الإسلامي، بل عن التاريخ الإنساني ككل، حيث نجد أن الإنسان منذ القدم كان يبحث عن الدين من خلال محاولة الإجابة عن الأسئلة الوجودية الصعبة، مثل: لماذا خُلقنا؟، ما المصير الذي سنؤول إليه؟، عبر التاريخ، اضطربت الأفهام في الإجابة عن هذه الأسئلة، فمنهم من بحث عنها في الماء، أو الهواء، أو النار، أو التراب، أو الذرة، أو الموسيقى، أو حتى في الإنسان، أو الحيوان، أو النبات، أو الجماد، لكن عندما أدركت بعض العقول أن الإجابة تكمن في حقيقة هذا المصدر الذي أوجد هذا العالم وهو في السماء، اختلفت التصورات حول طبيعة هذا المصدر".

زمن بعثة النبي
وأضاف: "عندما نعود إلى زمن بعثة النبي ﷺ، نجد أن الناس كانوا يبحثون عن الإله، لكنهم انقسموا إلى فريقين في تصوّرهم له: فريق المعطّلة أو المجردة: عطّلوا الله تعالى عن مباشرة اختصاصاته في هذا العالم، وجردوه من كل كمال وصفة، بحجة أن العالم مليء بالشرور، بينما الله خير، والخير لا يصدر عنه إلا الخير، فأنكروا أي علاقة بين الله والعالم، والثاني فريق المشبّهة والمجسّمة: شبّهوا الله بخلقه، وزعموا أنه يحتاج إلى الطعام والشراب والراحة، فوقعوا إمّا في التشبيه أو في التجسيم، لكن الدين جاء بعبارة واضحة وسهلة تخاطب الناس على اختلاف مستوياتهم: "ليس كمثله شيء".

الراحة والطمأنينة
وأردف: "نحن في حاجة إلى الدين لأنه هو الذي يمنحنا الراحة والطمأنينة، وهو الذي يجيب عن الأسئلة التي قد نبحث طويلًا عن إجاباتها بلا جدوى، وإذا نظرنا إلى التاريخ الإنساني، من مرحلة الهمجية والبداوة إلى مرحلة التقدم والتحضر، سنجد أن الأفهام اضطربت حول هذه الأسئلة، حتى جاءت الأديان والشرائع السماوية فأجابت عنها بوضوح، وبأسلوب راقٍ يتناسب مع كمال الله تعالى، ليس هذا فحسب، بل إذا نظرنا إلى الطبيعة الإنسانية، سنجد أنها تميل أحيانًا إلى الاستعلاء والكبر، والإنسان بطبعه كائن اجتماعي، لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين، فهو يحتاج إلى رفقة، وإلى جماعة يتعاون معها لعمارة الكون وتحقيق احتياجاته الأساسية. ولكي تستقيم هذه العلاقات، لا بد من ضابط، وهذا الضابط هو الدين".
وأردف أن الشريعة الإسلامية جعلت حفظ الدين على رأس المقاصد الشرعية، موضحًا أن غياب الدين أو عدم الالتزام به يؤدي إلى خلل في نواميس الكون وطبيعة الحياة، حيث إن الدين هو الإطار الذي يضبط حركة الإنسان ويوجه سلوكه بما يحقق التوازن في المجتمع.
حفظ الدين
وأضاف أن الشريعة لم تقتصر على حفظ الدين فقط، بل جاءت لحفظ النفس والنسل والعقل والمال، وهي أمور أساسية لاستقامة الحياة، مشيرًا إلى أن البعض قد يظن أن النظم الاجتماعية أو الدساتير الوضعية يمكن أن تحقق هذه الحماية، لكن الفارق الجوهري أن الدين يراعي الطبيعة البشرية التي تميل إلى المال، بل وتعشقه، وقد تدفع الإنسان إلى ارتكاب الحلال والحرام في سبيله، ومن هنا يأتي دور الدين في وضع الضوابط التي تحكم المشروعية من عدمها، مستشهدًا بقول الله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق".
المصالح الشخصية
وأشار مفتي الجمهورية إلى أن الدين لا يحفظ فقط المصالح الشخصية، بل يمتد أثره ليشمل المجتمع بأسره، فمثلًا، التعرض للأعراض وانتهاكها لا يقتصر ضرره على الأفراد فقط، بل يتجاوز إلى الآخرين، وقد يؤدي إلى الفساد والاضطراب الاجتماعي، بل وربما يصل الأمر إلى جرائم أكبر مثل القتل والتشريد والثأر، مما يهدد استقرار المجتمعات وأمنها.
ضبط حياة الإنسان
وشدد على أن الشريعة الإسلامية جاءت لضبط حياة الإنسان وتحقيق العدل والاستقرار، وأن الالتزام بمقاصدها يضمن حياة متوازنة تقوم على أسس الرحمة والإنصاف، مما يحفظ المجتمعات من الفوضى والاضطراب.
واستطرد الدكتور نظير عياد، أن حفظ الدين يأتي على رأس مقاصد الشريعة الإسلامية، موضحًا أن المقصود بحفظ الدين لا يقتصر فقط على حفظ العقيدة، بل يمتد ليشمل إقامة الشعائر والسلوك الأخلاقي الذي يعكس القيم الدينية.
وأوضح أن الشريعة الإسلامية جاءت للحفاظ على المقاصد الضرورية الخمسة، وهي الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، مشيرًا إلى أن حفظ الدين يُعد مقصدًا رئيسًا، ومن خلاله يمكن استنتاج كيف حرصت الشريعة الإسلامية على الحفاظ على بقية المقاصد.
وأشار إلى أن الدين هو "الوضع الإلهي الذي أنزله الله على أنبيائه ورسله لتحقيق الخير للناس في الدنيا والفلاح في الآخرة"، مؤكدًا أن مصدره من الله تعالى، وهو أعلم بخلقه، وأن هذا الدين نُقل عبر الأنبياء والرسل بصيغة واضحة ومتكاملة، تراعي مختلف العلاقات الإنسانية، سواء مع الخالق أو المخلوق.
الدين ليس مجرد عقيدة
وأضاف المفتي أن الدين ليس مجرد عقيدة، بل يشمل أيضًا الشريعة والتطبيق العملي لها وهو السلوك والتعامل الإنساني والأخلاق، موضحًا أن العقيدة بدون أثر عملي تُصبح بلا قيمة، وأن الإسلام يربط بين العقيدة والسلوك برباط محكم، حيث إن أي محاولة لفصل العقيدة عن الشريعة تُعد محاولات يائسة، مستشهدا بقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ"، وقوله: "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ"، حيث تذكر الآية العقيدة، ثم تنتقل إلى الشريعة لتحقيق الثمرة المرجوة، وهي الأخلاق والسلوك الحسن.
وأكد المفتي أن الدين ليس مجرد مجموعة من الأقوال أو الطقوس، بل هو منهج متكامل يجمع بين النظرية والتطبيق، ويُثمر سلوكًا إيجابيًا في حياة الإنسان، يعكس القيم الإسلامية في العفو، والرحمة، والتسامح، والتعمير، والإحسان إلى الآخرين.
وشدد على أن أي محاولة لتقديم الدين على أنه مجرد نظريات أو شعائر دون انعكاس عملي على حياة الناس، تُعد فهمًا قاصرًا لحقيقته الشاملة.