معطيات وسياق التصعيد الراهن.. هل فشلت تل أبيب فى تحييد تهديد الحوثي؟

تأتي الضربات العسكرية المباشرة التي تواصل جماعة الحوثي اليمنية توجيهها لإسرائيل ضمن سلسلة هجماتها التي تشنها منذ بدء الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة، وذلك في إطار ممارسة ضغوط ضد تل أبيب لإيقاف الحرب التي تدخل عامها الثاني، لتعكس قدرة تكيفية مع تأثير الضربات الإسرائيلية التي كانت قد وجهتها إليها في سياق متقطع على مدار العام الماضي، وكذلك مع الحملة العسكرية المكثفة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد قدراتها منذ أشهر، والتي تصاعدت وتيرتها خلال الأيام الماضية، على نحو يبدو أن المليشيا أرادت معه أن تعزز قدراتها للردع ضد التهديدات الإسرائيلية التي يصدرها المسئولون الإسرائيليون بين الحين والآخر، وتعكس رسائل بأنها لا تزال تمتلك القدرة على تهديد تل أبيب بشكل مباشر والوصول إلى أراضيها، بما يحافظ على توجهها إزاء ما تروج إلى أنه "مناصرة للمقاومة الفلسطينية"، وتأكيد ذلك في مسار مستقل عن المفاوضات المباشرة التي تُجريها واشنطن مع طهران في الوقت الراهن.
وحسب تحليل أعده مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية فإن هذه المعطيات تُثير بدورها التساؤل حول ما إذا كانت تل أبيب فشلت في تحييد تهديد الجبهة اليمنية، التي لا تزال تثبت قدرتها على الوصول لأراضيها رغم ما تتعرض له مليشيا الحوثي من ضربات، وهو ما يتعارض في الوقت نفسه مع خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن "إعادة تشكيل الشرق الأوسط"، وترويج رواية "النصر المطلق" التي يبرزها في سياق الإنجازات التكتيكية التي حققها على بعض الجبهات سعياً منه لفرض رؤيته التي تتماهى مع اليمين المتطرف بشأن أية تسويات محتملة في المنطقة في سياق الترتيبات الإقليمية المحتملة على خلفية الصفقات المزمعة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال زيارته المرتقبة للمنطقة في الشهر القادم.
معطيات وسياق التصعيد الراهن
تواصل مليشيا الحوثي نشاطها العسكري وهجماتها المباشرة ضد إسرائيل في إطار ما أسمته المرحلة الخامسة من التصعيد دعماً لقطاع غزة، حيث كانت قد استهدفت في 25 ديسمبر 2024، في هجوم هو الخامس من نوعه (آنذاك) الذي يستهدف وسط إسرائيل خلال الشهر نفسه، بعد أن كانت قد استهدفت أحد المباني ببلدية "رمات جان" شرق تل أبيب من خلال صاروخ باليستي أصاب المبنى إصابة مباشرة. وترتب على ذلك شنّ الجيش الإسرائيلي موجة من الغارات الجوية المكثفة التي تمثل الهجوم الرابع في سلسلة هجماته ضد الحوثيين، واستهدف خلالها بعض الموانئ البحرية، ومستودعات للوقود ومحطات كهرباء وزوارق سحب تُستخدم في الموانئ.
ورغم حالة الهدوء التي اكتنفت مشهد التصعيد العسكري بين الجانبين على خلفية اتفاق وقف إطلاق النار بقطاع غزة الذي تم التوصل إليه في 19 يناير الماضي (2025)، إلا أن جماعة الحوثي عادت في مارس الماضي (2025) وحذرت تل أبيب باستئناف الهجمات ضد السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، وكذلك مهاجمة إسرائيل مباشرةً في حال لم تلتزم باتفاق وقف إطلاق النار واتجهت لاستئناف الحرب ضد قطاع غزة.
ونظراً لاستئناف إسرائيل الحرب ضد القطاع واشتداد العمليات العسكرية، إلى جانب الإغلاق التام لمعابر إدخال المساعدات، عادت جماعة الحوثي لاستئناف عملياتها العسكرية، وإن لم تكن بالوتيرة ذاتها التي كانت عليها في الماضي، وربما يعود السبب في ذلك للحملة العسكرية المكثفة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية بالتنسيق مع الجانب البريطاني، والتي تصاعدت وتيرة هجماتها خلال الأيام الماضية ضد البنية العسكرية للجماعة.
وارتباطاً بسياق التصعيد الخطابي الذي هدد فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في كلمته المتلفزة في 21 أبريل 2025، بالرد "القاسي" على الهجمات الحوثية التي أعلنها المتحدث العسكري باسم الحوثيين، والمتمثلة في تنفيذ عمليتين عسكريتين استهدفت إحداهما هدفاً حيوياً في منطقة عسقلان وذلك بطائرة مسيَّرة نوع (يافا)، بينما استهدفت العملية الأخرى هدفاً عسكرياً في منطقة أم الرشراش بطائرة مسيَّرة نوع (صماد1)، استكملت جماعة الحوثي هذه الضربات بأخرى جديدة في تحدٍ واضح لتهديد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، استهدفت خلالها شمال إسرائيل للمرة الأولى في فجر يوم 23 أبريل 2025، بصاروخ باليستي تسبب في تفعيل صفارات الإنذار في حيفا وخليجها والجليل الغربي وفقاً للإعلام العبري[1]. وكانت هذه الهجمات هي الأحدث في حملة الحوثيين التي أطلقوا فيها أكثر من 200 صاروخ و170 طائرة بدون طيار على إسرائيل خلال العام الماضي.
يتصاعد في هذه الأثناء الحديث في الداخل الإسرائيلي بشأن ضرورة تطوير استراتيجية الردع المتطلبة لتحييد تهديد الحوثي الذي فشلت تل أبيب في تحقيقه حتى الآن ارتباطاً باستمرار الحوثي في توجيه هجماته العسكرية التي تستهدف العمق الإسرائيلي ومصالحها التجارية في البحر الأحمر، إلى الحد الذي تسبب في تعطيل ميناء إيلات تماماً، بحسب تقارير عبرية[2]. وتنقسم الآراء ما بين اتجاه يدفع بضرورة رفع كلفة هذه الهجمات من خلال الهجوم المباشر ضد إيران نظراً للدعم الذي تقدمه للحوثيين، خاصة في ظل سياق الضعف الذي يبدو عليه الوكلاء الإيرانيون في المنطقة، واتجاه آخر لا يؤيد هذا التوجه ويدفع بضرورة تنظيم الرد الإسرائيلي في إطار تحالف إقليمي واسع يعزز من فاعلية الردع، ويجنب تل أبيب التكلفة المرتفعة التي تتحملها بشكل مباشر عبر النفقات العسكرية المتطلبة لتوجيه الضربات للحوثي، أو لصد هجماته، وما يسببه ذلك من حالة ذعر بفعل صافرات الإنذار التي تدفع بالآلاف من السكان الإسرائيليين للملاجئ، وهو ما يُفقد المستوى السياسي الإسرائيلي زخم الإنجاز والانتصار الذي يروج بتحقيقه على عدة جبهات. بالإضافة إلى التكلفة الاقتصادية المباشرة التي تتحملها نتيجة تضرر حركة الملاحة البحرية للسفن التجارية الإسرائيلية، وتعطل موانئها.
الاستراتيجية الإسرائيلية .. حدود التأثير والفاعلية
ترتكز الاستراتيجية الإسرائيلية بشكل أساسي في تحييد وردع تهديد جماعة الحوثي على مظلة الردع الممتد التي توفرها الولايات المتحدة الأمريكية عبر تواجدها العسكري بالمنطقة الذي عززته في الفترة الماضية، وتقود من خلاله حملة عسكرية مكثفة بتوجيه الضربات للبنية العسكرية لجماعة الحوثي، والتي بدا أن الأخير قد تكيف معها، ويساعده في ذلك الطبيعة الطبوغرافية لليمن التي تتسم بتضاريس جبلية وعرة توفر له غطاء حماية من الضربات، هذا فضلاً عن استفادة الحوثي بجمع معلومات مهمة حول عمل الدفاعات الأمريكية ضد أنظمة هجومه.
ورغم اتجاه تل أبيب لتأكيد قدرتها على الردع المباشر لجماعة الحوثي في إطار استراتيجيتها للمواجهة التي تروج لها بقدرتها على تحييد تهديدات عدد من جبهات المواجهة، وقامت بالفعل في هذا السياق بتوجيه أربع ضربات جوية متقطعة -حتى الآن- ضد جماعة الحوثي، ورغم ما أحدثته هذه الضربات من خسائر تحديداً في البنية التحتية المدنية لمصادر الطاقة والموانئ والمطارات، في محاولة على ما يبدو استهدفت من خلالها تل أبيب رفع مستوى الضغوط المحلية وتفريغ حواضن الدعم الشعبي للحوثيين، فإن هذه الاستراتيجية التقليدية لإدارة الردع التي ربما وجدتها تل أبيب ناجحة في بعض الجبهات، ثبت عدم فعاليتها في تحييد الجبهة اليمنية، وذلك ارتباطاً بعدة متغيرات يمكن إجمالها على النحو التالي:
1- نمط الحروب غير المتماثلة والتطور النوعي لقدرات التنظيمات: تفرض التطورات التي لحقت ببنية وهيكل التنظيمات والفواعل من غير الدول أو ما يعرف بـ "التنظيمات الهجينة" خلال السنوات الماضية، وما أصبحت تتمتع به من قدرات غير تقليدية تتعزز معها قدراتها على الردع ورفع كلفة الإضرار بمصالحها في سياق المواجهات والحروب غير المتماثلة، واقعاً جديداً يحد من تأثير وفاعلية استراتيجيات الردع التقليدية التي تركز بشكل أساسي على المسار العسكري، الذي تستهدف من خلاله فرض الضغط على قدرات التنظيم وكذلك البيئة المحلية التي تشكل حاضنة دعم له.
وبالنظر لجماعة الحوثي نجد أن مرونة تكيفها مع التكلفة التي تفرضها الهجمات التي تشنها تل أبيب وكذلك الولايات المتحدة، تتعزز بشكل أساسي من خلال الخطاب الأيديولوجي الذي تؤطر به هجومها الذي تشنه ضد إسرائيل، وذلك في سياق ما تدعيه بشأن "مناصرة القضية الفلسطينية"، وهو ما تتعزز معه شرعيتها المحلية.
بمعنى أدق، ما تستهدفه استراتيجيات الردع التي تتبناها تل أبيب من نقاط ضعف رخوة للمليشيا والمتمثلة في استهداف البنية التحتية المدنية والعسكرية لرفع تكلفة الهجوم عليها، تعزز بشكل غير مباشر من الشرعية المحلية للأخيرة، وتُضعف في الوقت نفسه أدوات منافسيها المحليين لانتقاد دورها أو حتى استقطاب مناصريها في ضوء حالة الضغط والاستياء المتولدة نتيجة الأضرار التي تُحدثها هذه الضربات وتؤثر على مستوى المعيشة هناك، إلا أن ذلك يغفل المرونة التي يعززها الجانب الأيديولوجي المُعلن، والذي يجعل من هذه الخسائر المادية ثمناً وتكلفة مقبولة بالنسبة لمناصريه من الناحية الأيديولوجية.
2- الاستقطابات الإقليمية وخطر اتساع التصعيد: تُحفِّز التدخلات العسكرية الإسرائيلية الراهنة على عدة جبهات الاستقطابات الإقليمية بين قوى وفواعل الإقليم بما ينذر بخطر الانزلاق نحو حرب إقليمية واسعة، تعمل بعض الأطراف الإقليمية على تجنبها من خلال ممارسة أدوار الوساطة لمعالجة المُحفِّز الرئيسي للصراع بالمنطقة والمرتبط بالحرب التي تشنها تل أبيب ضد قطاع غزة وتحفز استمرارها ارتباطاً بحسابات سياسية ضيقة خاصة بالائتلاف اليميني المتطرف الحاكم هناك. هذا فضلاً عن تصوراتها المتطرفة التي تسعى لفرضها عبر المسار العسكري سواء تمثل ذلك في مخططات تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية، أو التوسع الاحتلالي في مناطق الجوار السوري وفرض واقع جديد وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ"إعادة تشكيل الشرق الأوسط".
ومن ثم، تنظر تل أبيب إلى تهديد الجبهة اليمنية باعتبارها تمثل في الوقت الراهن أحد العوائق الرئيسية للوصول إلى لحظة نضج الظرف الإقليمي الذي يسمح لها بفرض معادلات التسوية بالقوة وفقاً لرؤيتها، ويعزز سردية "النصر المطلق" التي يروج لها رئيس الوزراء الإسرائيلي. ولذلك تسعى في هذا الصدد لتشكيل تحالف واسع لتحييد هذا التهديد، دون أن يلق ذلك صدى إيجابياً لما ينطوي عليه مثل هذا التحالف من تهديدات تضر بالأمن الإقليمي ومعادلة الاستقرار بالمنطقة، وتجعل جميع المصالح الحيوية لدول المنطقة ضمن نطاق الاستهدافات المحتملة للتنظيمات المسلحة.
3- الاستقلال النسبي لجماعة الحوثي ضمن المحور الإيراني: تدفع العديد من التقارير بتمتع جماعة الحوثي باستقلالية نسبية في سياق الاستراتيجية الإقليمية لإيران، وأنه على الرغم من اعتماد الحوثيين على الدعم الإيراني لبناء قدراتهم العسكرية، بما في ذلك توريد الأسلحة الاستراتيجية، إلا أنهم يحافظون على الاستقلال في صنع القرار ولا يعطون الأولوية بالضرورة للمصالح الإيرانية. ويعزي البعض هذه الاستقلالية في أحد جوانبها إلى بعض العوامل منها، أنه على عكس العديد من الوكلاء الآخرين، لا يعتمد الحوثيون على إيران للحصول على المال، بل يجمعونه من الضرائب وشبكات التهريب. كما يتخذون قراراتهم باستقلالية عن إيران وحرسها الثوري، وهو ما تؤكده بعض المؤشرات، منها على سبيل المثال، ما أفادت به التقارير بأن إيران حثت الحوثيين على عدم الاستيلاء على العاصمة اليمنية صنعاء عام 2014، وهو ما تجاهلته الجماعة[3]. أيضاً أشارت تقارير أخرى إلى ممارسة الإدارة الأمريكية للرئيس السابق جو بايدن ضغوطاً على إيران في ديسمبر 2023، لإجبار الحوثيين على وقف إطلاق النار على السفن الأمريكية المارة عبر البحر الأحمر، إلا أن ذلك لم يغير من الأمر شيئاً[4]. ويرى المراقبون في هذا الصدد سواء رفض الحوثيون طلبات طهران أو لم تتدخل إيران على الإطلاق، أن النتيجة هي نفسها من ناحية محدودية قدرة إيران على التأثير على صنع القرار لدى الحوثيين.
من شأن هذه الاستقلالية لحركة جماعة الحوثي التي ترى بأنها تقود في الوقت الراهن "محور المقاومة" الذي تم تحييد جبهاته بدرجة كبيرة، أن تحد من قدرة استراتيجية الردع والمواجهة التي تتبناها تل أبيب خاصة إذا ما طورتها نحو التصعيد المباشر ضد إيران لتحييد التهديدات الحوثية، لما سيكون لذلك من تأثير محدود، بل قد يؤدي إلى ظهور حركة حوثية أكثر استقلالية وحزماً.
وينسحب هذا الأمر أيضاً إلى المفاوضات التي تجريها واشنطن مع طهران في الوقت الراهن، والتي تستهدف الدور الإقليمي لإيران في دعم الوكلاء بالمنطقة، حيث ليس من المتوقع أن يكون لذلك تأثير كبير في هيكل قرار الجماعة، خاصة في ظل تطويرها لقدراتها التصنيعية للأسلحة، على نحو تتعزز معه مرونتها في التكيف مع أي تراجع محتمل للإمدادات التي تزودها بها طهران ارتباطاً بأي اتفاق محتمل لها مع واشنطن. بل ربما تعوّل المليشيا على تصعيدها الراهن لتعزيز أوراقها التفاوضية في أي مسارات تفاوض مستقلة في المستقبل تضمن بقاءها وتحافظ على نفوذه في المشهد اليمني.
4- الفشل الاستخباري لبنية الاستهداف العملياتي: تواجه العمليات الإسرائيلية في اليمن تحديات استخباراتية كبيرة، ترتبط بندرة المعلومات الاستخباراتية الموثوقة، ويعود ذلك لعاملين، أولهما، إعطاء تل أبيب الأولوية تاريخياً للتهديدات الأخرى، ولم تستثمر بكثافة في جمع المعلومات الاستخبارية عن الحوثيين. وثانيهما، البنية التحتية المتراجعة للاتصالات في اليمن، من ناحية ضعف بنية الاتصالات واعتمادها على البنية السلكية وليس اللاسلكية، بالإضافة إلى سرعات الإنترنت البطيئة، والتي تشكل عائقاً أمام قدرات إسرائيل على جمع المعلومات الاستخباراتية. على عكس ما كانت تتبعه في مراقبة الاتصالات مع حركة حماس في قطاع غزة وكذلك حزب الله في لبنان، وهو ما يجعل هذا النهج في الحالة اليمنية أقل فعالية، خاصة وأن جماعة الحوثي أصبحت تعتمد على هذه البنية المتراجعة باعتبارها عنصراً حاسماً في استراتيجيتها الدفاعية.
وهنا تجدر الإشارة إلى التقارير التي تتحدث عن تركيز الولايات المتحدة الأمريكية جهودها العسكرية المكثفة في الأيام الأخيرة على تدمير أنظمة الاتصالات العسكرية للحوثيين في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، بهدف شل منظومة الاتصالات السلكية والبصرية في جميع أراضي الحوثيين في اليمن لإجبارهم على الاتصال بالإنترنت، والبدء في استخدام أنظمة الاتصالات اللاسلكية المعرضة للتنصت المباشر من قبل أقمار التجسس الأمريكية أو أنظمة جمع المعلومات الإلكترونية (COMINT) المثبتة على السفن الحربية الأمريكية العاملة في المنطقة، من أجل تحسين جودة الاستخبارات التكتيكية، والحصول على معلومات الإنذار المبكر لإحباط إطلاق الصواريخ الباليستية باتجاه إسرائيل. ولعل ذلك يفسر في جانب منه قرار شركة ستارلينك لخدمات الإنترنت الفضائي الذي اتخذته في سبتمبر الماضي (2024) لتدشين خدمة الإنترنت بشكل رسمي في اليمن كأول دولة في الشرق الأوسط[5].
من شأن هذا التحدي أن يُحد من تأثير استراتيجية الردع التي تتبناها تل أبيب ويضعف قدرتها على تنفيذ تهديداتها التي يصدرها مسئولوها العسكريون، على غرار ما كان تعهد به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو باستهداف قيادة الحوثيين، وكذلك كان قد أصدر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، التهديد ذاته قائلاً: "سنطارد جميع قادة الحوثيين، وسنضربهم كما فعلنا في أماكن أخرى"، وهو ما فشلوا في تحقيقه حتى الآن.
5- ارتفاع كلفة النفقات العسكرية المتطلبة لـ "الردع المباشر" هجوماً أو دفاعاً: يفرض تعزيز قدرات الردع المباشر لتل أبيب سواء كان ذلك في إطار استراتيجية هجومية أو دفاعية تكلفة مالية كبيرة في ضوء النفقات العسكرية المتطلبة سواء كان ذلك لشن غارات جوية في اليمن، التي تبعد حوالي 2000 كيلومتر عن إسرائيل وما يتطلبه ذلك من تكلفة تشغيلية للطائرات المقاتلة، بالإضافة إلى تكاليف تشغيل طائرات التزود بالوقود[6]، أو لصد هجمات الصورايخ الباليستية والطائرات المسيرة ذات التكلفة المحدودة نسبياً مقارنة بتكلفة بطاريات الصواريخ الإسرائيلية التي تنطلق لصد هذه الهجمات[7]، وهو ما دفع وزارة الدفاع الإسرائيلية في ديسمبر الماضي (2024) لتوقيع اتفاقية مع شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية لتوسيع توريد صواريخ اعتراضية من طراز "حيتس 3" بمليارات الشواقل، بهدف توفير المزيد من الصواريخ الاعتراضية التي أثبتت فعاليتها في إسقاط الصواريخ الباليستية القادمة[8]. وتعد هذه المعادلة أحد جوانب الضعف في استراتيجية المواجهة الإسرائيلية التي تعتمد عليها جماعة الحوثي في تعزيز قدرتها على موازنة الردع في مواجهة التهديدات الإسرائيلية.
ختاماً، يمكن القول إن هذه المعطيات السابقة وما تعكسه من جوانب خلل واضحة تعتري استراتيجية الردع الإسرائيلية في مواجهة تهديدات الجبهة اليمنية، تقود في الوقت الراهن إلى تصاعد الحديث في الداخل الإسرائيلي بشأن ضرورة تطوير هذه الاستراتيجية، وانقسمت الآراء في هذا الصدد ما بين المؤسسات الأمنية الإسرائيلية وصانعي سياساتها لاتجاه أكثر تصعيداً يرتبط بالاستهداف المباشر لإيران رداً على هجمات الحوثيين، وهو ما يتبناه رئيس الموساد، ديفيد برنياع. بينما يميل الاتجاه الآخر، إلى نهج أكثر تحفظاً، وهو ما تفضله الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وتجادل ضد توجيه ضربات مباشرة إلى إيران. ويبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يميل إلى التوجه الأول المرتبط بتصعيد المواجهة المباشرة مع إيران، خاصة في ظل حالة الإغراء بتصعيد الصراعات التي عليها تل أبيب في ضوء الإنجازات التكتيكية التي حققتها ضد الوكلاء الإيرانيين بمحيطها الحيوي، وكان يُعوّل في هذا الصدد على توريط الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المواجهة. بيد أن متغيرات السياق الراهن لا تساعد على ذلك خاصة في ضوء تفضيل الإدارة الأمريكية الجديدة للنهج الدبلوماسي في معالجة المشكلة الإيرانية سواء تلك المرتبطة ببرنامجها النووي أو دور وكلاءها الإقليميين بالمنطقة، وتوظيف الإنجازات التكتيكية التي تحققت ليس لتصعيد الصراع وإنما لإضعاف الموقف التفاوضي لإيران وإجبارها على إبداء المرونة بشأن هاتين المسألتين، وهو ما تسعى لتحقيقه من خلال مسار المفاوضات المباشرة التي انطلقت بين الجانبين في العاصمة الإيطالية روما، في 19 أبريل 2025، لاستكمال ما تم التباحث بشأنه في الجولة الأولى التي استضافتها سلطنة عمان في 12 من الشهر نفسه.
ويتوسط هذه الاتجاهات اتجاه آخر تدفع به بعض مراكز الفكر الإسرائيلية، من خلال تطوير استراتيجية بديلة تتمحور حول بناء تحالف دولي واسع يضم جهات إقليمية فاعلة، والعمل على تأهيل ودعم فاعل محلي قادر على تطوير تهديد بري موثوق لدفع الحوثيين إلى التراجع عن العاصمة والموانئ. وبطبيعة الحال تنطوي هذه الاستراتيجية على مخاطر تصعيد عسكري واسعة في الداخل اليمني التي قد تتسع وتتمدد للخارج باستهدف المصالح الحيوية في الإقليم في إطار سعي الأطراف المتحاربة وخاصة الحوثي لرفع كلفة الإضرار بمصالحها وبقاءها. ولذلك تعمل الأطراف الإقليمية وفي مقدمتها مصر على فرض المسار السياسي لتسوية الأزمات من خلال أدوار الوساطة ومقترحات التهدئة التي تقدمها لفرض وقف إطلاق النار في قطاع غزة باعتباره المحفز الرئيسي لاتساع رقعة الصراع في المنطقة، وكذلك منع مخططات التهجير المستهدف بها تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما من شأنه أن يُشعل كامل المنطقة ويهدد المصالح الحيوية ذات الأهمية الاستراتيجية التي من شأن الإضرار بها أن تُلقي بظلالها على مشهد الاستقرار العالمي.