عاجل

تبقى ذكرى تحرير سيناء في الخامس والعشرين من أبريل من كل عام بمثابة شهادة خالدة على قدرة الدولة المصرية على استرداد كامل ترابها الوطني باستخدام كافة أدوات قوتها الشاملة: العسكرية، والدبلوماسية، والقانونية، والسياسية و لم يكن تحرير سيناء مجرد انتصار عسكري في ميدان المعركة، بل هو نتاج إستراتيجية متكاملة جمعت بين الحرب والسلام، وبين التضحيات المسلحة والجهود التفاوضية الطويلة التي امتدت سنوات.

لقد كان تحرير سيناء نموذجا استثنائيا في فن إدارة الأزمات وتحقيق الأهداف الوطنية الكبرى عبر آليات متعددة، أبرزها العمل العسكري الصارم، والجهود الدبلوماسية الصبورة، والتمسك بالقانون الدولي، والاعتماد على تماسك الجبهة الداخلية ولعلنا نحتاج اليوم، في ظل ما يشهده العالم من تحديات متجددة، إلى إعادة قراءة هذا النموذج بما يحمله من دروس في التخطيط والصبر الوطني والمثابرة السياسية.

لم يكن لمصر أن تدخل مرحلة التفاوض على تحرير سيناء دون أن تثبت جدارتها على الأرض وقد كان نصر أكتوبر 1973 هو النقطة الفاصلة التي أعادت لمصر كرامتها العسكرية، وأثبتت أن الجيش المصري قادر على دحر الاحتلال رغم كل الظروف الصعبة فمعركة التحرير بدأت عندما عبر الجندي المصري قناة السويس، وتحدى خط بارليف الحصين، ورفع العلم فوق الضفة الشرقية، ليعلن أن الكرامة لا تستعاد إلا بالدم والتضحية ولم يكن النصر العسكري نهاية المعركة، بل هو الذي مهد الطريق لأداة أخرى من أدوات التحرير وهو التفاوض السياسي.

دخلت مصر بعدها مفاوضات شاقة بدءا من اتفاقيات فصل القوات ثم مفاوضات كامب ديفيد التي توجت باتفاقية السلام في 1979 ومنذ ذلك الحين بدأت مراحل انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من سيناء، وصولا إلى رفع العلم المصري على كامل أرض سيناء في 25 أبريل 1982، ما عدا طابا، التي ظلت رمزا للتحدي القانوني الذي خاضته مصر وأثبتت فيه حقها عبر الوثائق والدلائل.

الدبلوماسية المصرية لم تكن تقليدية، بل جسدت وعيا عميقا بالتحولات الدولية وموازين القوى فقد نجحت في إقناع المجتمع الدولي بعدالة القضية المصرية، وأدارت المفاوضات بحنكة عالية، مستندة إلى مرجعية قانونية قوية وقرارات دولية واضحة، ما أدى إلى عودة طابا في 1989 بعد حكم لجنة التحكيم الدولية لصالح مصر.

قضية طابا كانت مثالا ناصعا على استخدام السلاح القانوني في إدارة النزاعات الدولية واختارت مصر طريق التحكيم الدولي، وقدمت ملفا متكاملا شمل خرائط ووثائق ومستندات تؤكد سيادتها على طابا، مقابل ادعاءات إسرائيلية ضعيفة وقد أثبتت مصر من خلال هذا الملف أنها دولة مؤسسات تحترم القانون الدولي وتثق في أدواته، وهو ما كان له الأثر الإيجابي في تعزيز صورتها أمام العالم وهذا النجاح القانوني لم يكن مفصولا عن الدعم الشعبي والسياسي، بل جاء تتويجا لتماسك وطني كامل حول الهدف الأسمى وهو استعادة الأرض بكل الوسائل المشروعة.

واليوم، ونحن نواجه تحديات إقليمية ودولية معقدة، نحتاج إلى استلهام روح تحرير سيناء، ليس فقط في بعدها العسكري، بل في فلسفتها المتكاملة في التعامل مع الأزمات فالدولة المصرية لا تكتفي بالأداة الأمنية أو العسكرية وحدها، بل تستخدم أدوات التنمية، والتعاون الدولي، والدبلوماسية النشطة، والدعم الإنساني، وقوة القانون لتعزيز مصالحها وصون سيادتها ونرى ذلك في ملفات كثيرة، سواء في إدارة أزمات الحدود، أو الدفاع عن الحقوق المائية، أو المشاركة الفاعلة في ملفات الأمن القومي العربي، أو المساهمة في جهود دعم القضية الفلسطينية ومثلما خاضت مصر معركة تحرير سيناء بخريطة أدوات متعددة، فإنها اليوم تواجه التحديات بآليات شاملة: من حوار وطني داخلي إلى تحالفات إقليمية، ومن تنمية متوازنة إلى تطوير قدرات الردع.

إن تحرير سيناء ليس مجرد ذكرى نحتفي بها، بل هو محطة لتقييم الأداء الوطني واستشراف المستقبل وأهم ما في هذا النموذج أنه يعلمنا أن التحديات الكبرى لا تحل بأداة واحدة، بل بمزيج من العمل، والعقل، والتخطيط، والتماسك الشعبي، والمرونة الدبلوماسية. كما يعلمنا أن وحدة الصف الداخلي هي صمام الأمان الأول، وأن القوة لا تقاس فقط بما تملكه الجيوش، بل بما تمتلكه الشعوب من وعي وصبر وثقة.

في النهاية، فإن سيناء التي تحررت بالسلاح والقانون والدبلوماسية، واليوم تستكمل مسيرة تحريرها بالتنمية الشاملة، وإدماجها الكامل في جسد الوطن، وتثبيت أركان الاستقرار بها، لتظل دائما رمزا لانتصار مصر بكل أدوات قوتها الشاملة.

تم نسخ الرابط