في الجزء الأول من هذا المقال، تناولنا قصة تايوان منذ سبعينيات القرن الماضي وأوضحنا كيف فكرت تلك الجزيرة في أن الوسيلة الوحيدة لحمايتها من خطر الصين أو أي خطر آخر يتمثل في قدرتها على تأسيس صناعة قوية تجبر العالم كله على الاعتماد عليها، ومن ثم لا يسمح العالم بتدميرها على الأقل، وقد اهتدت بعد تجارب فاشلة إلى التكنولوجيا وتحديدًا صناعة أشباه الموصلات، كما أوضحنا أيضًا ان نتائج التجربة التايوانية تجسدت بوضوح في شركة "TSMC" التي تأسست عام 1987 ومن خلالها تحولت تايوان من نمر آسيوي صاعد إلى غول لا يستطيع أحد الوقوف أمامه في هذا القطاع خاصة في العقدين الأخيرين.
نستكمل اليوم ما طرحناه ونبدأ من عام 2010 الذي يعد عام مفصلي ليس في تاريخ تايوان أو شركة TSMC فقط، بل في تاريخ العالم التكنولوجي كله، فقبل تلك السنة كانت شركة أبل تستورد رقاقات هاتف الآيفون من شركة سامسونج لكن الأخيرة لم تكتفي بهذا الدور وبدأت في تصنيع الهواتف المحمولة لتتحول من موقع الصديق إلى المنافس، وهنا لم تجد أبل أفضل من TSMC لتعقد معها صفقة تاريخية قفزت بالشركة التايوانية إلى عرش الشركات التكنولوجية في العالم.
بفضل تلك الصفقة ونتيجة البحث والتطوير المستمر وصلت أرباح شركة "TSMC" إلى 75 مليار دولار، أما تايوان البالغ عددها 23 مليون نسمة فقط صارت من أكبر 25 اقتصاد في العالم بناتج محلي وصل إلى 800 مليار دولار، وهو ما يثبت نجاح تجربتها في الاعتماد على صناعة واحد تحميها وتدفع بها إلى مصاف الدول الناجحة.
لكن النجاح التايواني لم يتوقف بل توغّل حتى صار خطرًا وصارت شركة "TSMC"هي أخطر شركة تكنولوجية على وجه الارض فعلا لا مجاز، والدليل إنها وحدها تستحوذ على 50% من سوق الرقاقات في العالم، أما بالنسبة للرقاقات المتطورة فتسيطر الشركة على نسبة 95% من السوق العالمي.
وحتى يفهم القارئ أكثر ما معنى هذا، فببساطة لو قررت دولة ما أن تضرب الشركة التايوانية لأي سبب فإنه بمجرد ضرب "TSMC" ستتوقف طائرات تلك الدولة نفسها عن التحليق لأنها تعمل برقاقات من تصنيع الشركة التي دمرتها للتو، هذا بالنسبة للدولة المعادية أما بالنسبة للعالم كله فإن أكثر من 50% من أجهزته ستتوقف عن العمل، ولك أن تتخيل توقف المطارات والأسلحة العسكرية والأجهزة الطبية وأدوات العمل التكنولوجية مثل اللاب توب والموبايل وما إلى ذلك، وبعيدًا عن كابوسية المشهد فإن الخسائر المالية كما قدّرها البنك الدولي ستصل 2 تريليون دولار.
تلك الحقيقة يُدركها التايوانيون جيدًا ولذلك نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريرًا كشفت فيه أن خطة الشعب التايواني في حالة الهجوم عليهم من الصين هي الهروب إلى مقر شركة "TSMC" باعتبارها ملاذ آمن لن تستطيع بكين أن تضربه لأنها ستكون أول المتضررين باعتبارها دولة عملاقة تحتاج تايوان لتصنيع أجهزتها التكنولوجية وتصديرها للعالم.
تلك الحماية الفولاذية التايوانية لم تعد تُعجب العالم الذي أدرك حقيقة الفخ الذي وقع فيه وهو أنه صار أسير شركة في جزيرة صغيرة مهددة بعملاق كبير اسمه الصين، لذلك طالبت الشركات التكنولوجيا الكبرى مثل ميتا ومايكروسوفت وغيرها في عام 2023 أن تخرج تلك الصناعة من تايوان حتى تكون أكثر أمانا باعتبارها أساس المستقبل، كما أقدمت واشنطن على عقد تحالف في نفس العام مع تايوان لإنشاء مصانع رقاقات في ولاية أريزونا ووافقت "TSMC" وإن كانت الخطوات بطيئة حتى لا يغضب الجار الصيني.
غيّرت تايوان المعادلة العسكرية، هكذا صارت القاعدة بعد أن تمكنت شركة واحدة من شل حركة العالم تجاهها، لكن من ناحية أخرى صارت تمثل خطرًا في ظل تهديدات ترامب الذي لا يرضى بالتلكؤ في تأسيس الشركة لمصانع لها في أمريكا، ومن ناحية اخرى لن يرضى الرئيس الصيني "شي جين" بدعم عدوه الأميركي في صناعة كتلك، وما بين خطوات ترامب غير المتوقعة وطموح الزعيم الصيني يظل العالم يترقب.