الجميع ينتظرون أغنية العندليب الأسمر ليلة شم النسيم يوم ٢٦ أبريل ١٩٧٠، وكانوا يتخيلون ماذا سيرتدي؟، ويتساءلون ماذا سيقول؟ وكان بداخل عبد الحليم مشاعر متضاربة، فهو في قمة السعاده لأنه سيغني لجمهوره في اليوم الذي إعتاد سنويًا أن يلقاهم فيه، وحزيناً لأنه سيغني بصدق أغنية تصف قصة حبه الحقيقي، والذي ضاع منه في سفوح وجبال لبنان. وزاد من حزنه، أن منعه التليفزيون من اذاعة حفلته على الهواء كما اعتاد، واستبدلوها بحفل الفنان فريد الأطرش؛ لعودته بعد غياب ومرض لحبيبته مصر! ورغم كل ذلك، وقف عبد الحليم وسط جمهوره، وبداخله هذا البركان الهادر من المشاعر، وهو يقول: "دلوقتي زى الهوى"... كتب كلماتها الشاعر الشاب محمد حمزة، ولحنها موسيقارنا الشاب بليغ حمدي، ثم بدأ العندليب يصدح...!!
زى الهوى يا حبيبي زي الهوى
وآه من الهوى يا حبيبي… آه من الهوى
والحقيقة أن قصة حبه الجميلة قد حكاها قبل شهور، وبحزن بالغ، لصديقه الكاتب الصحفي والشاعر الرقيق محمد حمزة، والذي صاغها بإبداع متناهى الرقة والجمال، لتبدأ -كالعادة- بوصف رائع لأيام الحب بجماله، والسعادة ببهجتها، والعاشقان يسيران تحت ضوء القمر، فرحين بحبهم، وضاحكين من قلوبهم.
وخدتني من إيدي يا حبيبي.. ومشينا
تحت القمر..غنينا وضحكنا وحكينا
وعبد الحليم حين قرأ يومًا مع حمزة عبارة "قَبْض الهوى" في شعر المتنبي، تمنى أن يحولها حمزة له الى اللغة المصرية العامية، فقال حمزة:
وفي عز الكلام سكت الكلام
وأتاريني ماسك الهوى بإديه ماسك الهوى
وآه من الهوى يا حبيبي آه من الهوى
وحُب العندليب في زمن الرومانسية الجميل كان كحياته ملئ بالآهات، والخوف، والحزن. الخوف على ضياع فرحة القلب، والخوف عل تبدد الشوق والحب.
خايف ومشيت وأنا خايف
إيدي في إيدك وأنا خايف
خايف على فرحة قلبي
خايف على شوقي وحبي
فحين تكون في قمة السعادة، تخشى أن تضيع منك فجأة هذه السعادة، فتُذكِّر حبيبك بها ليتذكرها معك، وكأنك تلومه على ما سيحدث، من قبل أن يُلام! وتقول له كما قال العندليب لحبيبته:
وياما قلت لك أنا...وإحنا في عز الهنا
قلت لك ياحبيبي لا أنا قد الفرحة ديا
وحلاوة الفرحة ديا
خايف لا في يوم وليلة ما لاقكشي بين إيديا
تروح وتبعد بعيد عليه ..بعيد عليه ياحبيبي
ويستمر عبد الحليم في الحوار البديع بين العشاق في سفوح لبنان، فها هى حبيته تطمئنه، وتهدئ قلبه المرتعد على دوام الحب، ورجوعها إليه مهما ابتعدا
وقلتلي يا حبيبي ساعتها
دي دنيتي إنت اللى بنيتها
وقلتلي راجع..بكرة أنا راجع
ثم يصور الشاعر بالكلمات صورة مكان اللقاء ببراعة منقطعة النظير، وكأنك ترى معه البيت الذي جمعهما؛ بسعادته وبهجته، والزمن الذي جمعهما بين الورود والشوق والأغاني، فالشموع عنده تضئ الكلمات وتنيرها
وفضلت مستني بآمالي ومالي البيت
بالورد..بالشوق..بالحب..بالأغاني
شمع قايد في كل كلمة فوق لساني
كان ده حالي ياحبيبي يوم ما جيت
وحين تكتمل النشوة والسعادة، تسمع العاشقان يغنيان سويًا، ويذوبان معًا كذوبان الشمع، فالحب يذيقهما حلاوته وهم سكارى به، وفيه
رددنا الغنوة الحلوة الحلوة سوا
ودوبنا مع نور الشمع دوبنا سوا
ودقنا حلاوة الحب دقناها سوا
كان عبد الحليم -وبعد تردد كبير- ينوى خطبة هذه الفتاة اللبنانية الرائعة الجمال، ولكن القدر كان له بالمرصاد، ففي اليوم الذي قرر فيه السفر إليها ليفاجئها بطلبه، إتصلت هى به فجأة وأخبرته أن إبن عمها قد تقدم لخطبتها، وأنها وافقت...بكى العندليت وترقرقت عينيه بالدموع!!
وفي لحظة لقيتك يا حبيبي
زى دوامة هوا
ثم تخرج الآه من قلب العاشق الولهان بحرقة شديدة وكأن كلماته تنتحب مع نفسه الحزينة!
رميت الورد طفيت الشمع يا حبيبي
آه..!!!
والغنوة الحلوة ملاها الدمع ياحبيبي
آه..!!!
وهذه هى أقوى "آه" قالها عبد الحليم في حياته لصدقها، فهى تخرج من أعماقه وكأنها تجرحها من الداخل، فتتسرب الآه الحزينة الى قلبك وأنت تسمعها وهو يعيدها ويكررها، كأنه يحاول أن يطعنك أنت أيضًا بجرحه مرارًا وتكرارًا.....ففي عز الأمان الذي عاش فيه حبه سعيدًا، ضاع الأمان فجأة، ليترك له يداه تقبضان على الهوا، فتعود كل يد خالية واهمة..!!
لقد بكى عبد الحليم وحمزة يقرأ له الكلمات لأول مرة...فما أحزن اليوم الذي يضيع فيه حبك الكبير فجأة ولا تعرف ماذا فعلت لتفقده؟ وماذا يمكن أن تفعل لتنقذه!؟
وفي عز الأمان ضاع مني الأمان
وأتاريني ماسك الهوى بإيديه ماسك الهوى
وآه من الهوى يا حبيبي آه من الهوى....يا حبيبي....!!
وداعًا زمن الرومانسية الجميل في ليلة شم النسيم...فلقد أصبحنا مثل هذا اللحن العذب؛ زى الهوى.....!!!!