عاجل

في ظل الثورة الإعلامية التي نعيشها اليوم، وانتشار منصات التواصل الاجتماعي أصبح الحديث عن الدين والشرع الشريف لا يقتصر على الفقهاء والعلماء المتخصصين فقط، بل دخلت هذه المواضيع في طُرُق جديدة من التعبير، فصار الدين بمختلف أبعاده جزءًا من المشهد الإعلامي السريع الذي يتطلب التفاعل السريع لجذب الانتباه. 

ولكن في هذا السياق، يبرز خطر كبير، ألا وهو ما يمكن أن نسميه "توليد الفتوى الإعلامية"، حيث يتم تسويق الفتاوى على أنها منتجات إعلامية مستندة إلى "التريند" أو ما يتطلبه السوق الإعلامي، دون أن يكون لها أساس علمي صحيح أو شرعي ثابت.

وقد شهدنا مؤخرًا دعوات لبعض الشخصيات المحسوبة على جامعة الأزهر التي تستغل المنابر الإعلامية في تقديم آراء فقهية شاذة تتناقض مع الثوابت الشرعية. ومن بين هذه الدعاوى دعوات المساواة المطلقة في الميراث بين الذكر والأنثى، وطرح الموضوع في شكل استفتاء شعبي، أو الطرح المغلوط حول فرضية الحجاب، بالإضافة إلى عدد من الفتاوى الغريبة التي أصبحت تُثار بشكل متكرر مثل اعتبار الراقصة التي تموت في طريقها لعملها شهيدة، وجواز التضحية بالطيور في عيد الأضحى، بل ووصل الأمر إلى تجويز شرب البيرة في بعض الأوقات إذا لم يصل الإنسان إلى حد السكر!

هذه الدعاوى تعكس ظاهرة خطيرة على الفقه الإسلامي، حيث يتم التلاعب بالأحكام الشرعية، وتقديم فتاوى في أحيان كثيرة تحاكي الأهواء وتتماشى مع الأذواق الشعبية، بدلًا من استنادها إلى فهم علمي دقيق للشرع. وفي هذه الحالة، يتم توليد "فتاوى إعلامية" ليست قائمة على أسس منطقية، بل على حسابات إعلامية فجة تهدف إلى جذب الانتباه وتوليد الحديث الجماهيري.

ما يتجاهله هؤلاء هو أن الدين لا يُفهم عبر المزاج العام ولا بالتصويت الشعبي، بل هو علم قائم على الوحي والتفسير الشرعي المستند إلى الأدلة القاطعة من القرآن الكريم والسنة النبوية. فإباحة خلع الحجاب أو المساواة في الميراث بناءً على "تطوع جماهيري" هو تعدٍ على قدسية النصوص الشرعية التي لا تحتمل التغيير، خاصة في القضايا التي ثبتت فيها أحكام محددة وقاطعة.

فيما يخص الميراث، فإن الدعوات إلى المساواة المطلقة بين الذكر والأنثى تتجاهل حقيقة أساسية، وهي أن أحكام الميراث في الإسلام ليست من حق الإنسان التلاعب بها أو تغييرها بناءً على مزاج أو مطالب اجتماعية. فقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّـهِ} [النساء: 11]، في إشارة إلى أن هذه الأحكام ليست من صنع البشر، بل هي أوامر إلهية واجبة التنفيذ. الدعوة إلى تغيير هذه الأحكام تحت مسمى "المساواة" أو "التطوع" تتجاهل تمامًا حقيقة أن الأحكام الشرعية في هذا السياق هي فريضة فرضها الله تعالى، لا يجوز التنازل عنها ولا تعديلها.

والقول بأن أحكام الميراث قابلة للتعديل استنادًا إلى تبرعات الأفراد هو خلطٌ واضح بين ما هو واجب شرعًا وبين ما هو فضلٌ إنسانيّ اختياري. فالتبرع لا يُنسخ به النص القطعي، والإحسان لا يُبطِل الفريضة، بل هو تصرف لاحق لا علاقة له بالبنية التشريعية للأحكام. أما الدعوة لطرح مثل هذه الأحكام القطعية على استفتاء شعبي، فهي كارثة منهجية تُسقط مرجعية الوحي وتُقدّم "تصويت الناس" على "نصوص السماء"، وهو منطق لا يُعقل حتى في أدنى صور الانضباط العقلي أو الفقهي، فالاستفتاء قد حسم بقول الله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ) [النساء:176].

وكذلك في مسألة الحجاب، التي طرحت مؤخرًا بشكل متزايد من قبل بعض الأصوات الإعلامية التي تدعي عدم فرضيته، يجب أن نوضح أن الحجاب في الإسلام هو فريضة شرعية منصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية. فهو ليس مجرد عادة اجتماعية، بل هو جزء من التزام الإنسان المؤمن بالشرع الإسلامي، ولا يمكن تجاوزه تحت أي مبرر مهما كان.

والأمر الذي يجب أن ننتبه له هنا هو أن هذه الفتاوى هي بمثابة "شذوذ فقهي"، حيث يتم فيها استخدام المصطلحات الفقهية بشكل مغلوط ومُجتزأ، في محاولة لتطويع الشريعة بما يتناسب مع متطلبات اللحظة الإعلامية أو السياسية. فتوليد هذه الفتاوى لا يراعي أصول الفقه أو مبادئ الاجتهاد الصحيح، بل يعتمد على التشهي في إصدار الفتاوى على نحو غير مسؤول، مما يؤدي إلى زعزعة الثقة في الإسلام وأحكامه لدى العامة.

إن ما يُمارَس تحت لافتة "التنوير" لا علاقة له بالتجديد المحمود في الخطاب الديني الذي تحرص عليه مؤسسات الفتوى المعتمدة والعلماء الراسخون في العلم، وإنما هو أقرب إلى "تسويق" ديني يهدف إلى بناء حضور شخصي في الفضاء العام، ولو على حساب النصوص والأحكام الثابتة.

ولا يُفهم من هذا أي دعوة لإغلاق باب الاجتهاد، بل المطلوب أن يكون الاجتهاد مؤسسيًّا منضبطًا، يصدر عن أهل الذكر المتخصصين، لا عن أصوات منفلتة تستسهل القول على الله، وتلوِّن أحكام الدين لتناسب جمهورها على الهواء.

وإن كانت الشريعة قد سدّت ذرائع الفساد، فالأولى بسدها اليوم تلك المنابر التي تجعل من النص الشرعي مادة للجدل الموسمي، ومن الفتوى سلعةً يُعاد إنتاجها بحسٍّ دراميٍّ لا علاقة له بميزان العلم، ولا بقصد الورع، ولا بمسؤولية الكلمة التي هي من أعظم ما يُسأل عنه الإنسان يوم الحساب.

إن توليد الفتوى الإعلامية، بعيدًا عن مراكز العلم المتخصصة، يمثل أحد أكبر التحديات التي تواجه الخطاب الديني اليوم؛ لأنه لا يُنتج علمًا ولا وعيًا، بل يُنتج فوضى فكرية، يختلط فيها "الاستفهام الجاد" بـ"الاستفزاز المقصود"، ويُستبدل فيها نور الوحي ببريق الكاميرات.

وفي هذا السياق، نجد أن البيان الذي أصدرته دار الإفتاء المصرية، والذي أكد على قداسة النصوص الشرعية ورفض أي تعديلات أو اجتهادات تتعارض مع ما ثبت في القرآن والسنة، هو تأكيد على موقف الإسلام الثابت من هذه القضايا. إذ لا يمكن إلغاء الأحكام الشرعية القائمة على فريضة منصوص عليها من الله عز وجل لمجرد تلبية مطالب إعلامية أو شعبوية. هذه الفتاوى هي في النهاية مغالطات تهدف إلى "زعزعة قدسية النصوص" وتضليل المسلمين بأحكام متهافتة.

الواجب على علماء الدين أن يكونوا حريصين على حماية الشرع من الاستغلال الإعلامي والتجاري، وأن يقفوا بحزم ضد "توليد الفتوى الإعلامية" التي تهدف إلى تزييف الفقه وتلاعب الناس بمعتقداتهم الدينية. فالأحكام الشرعية لا تتغير بتقلبات الرأي العام، بل هي ثابتة، محفوظة بحفظ الله، لتظل منارة تهدي المؤمنين إلى طريق الحق.

 

تم نسخ الرابط