رغم مرور عقود على انطلاقة الحركة النسوية في مصر، فإن بعض القضايا لا تزال تثير الجدل بين الحين والآخر، وفي مقدمتها قضية ميراث المرأة. هذه القضية، التي طفت مجددًا على سطح النقاش العام، ليست مستحدثة في تاريخ الفكر المصري، بل سبقتها معارك فكرية طاحنة ومثيرة خاضهتا رموز بارزة لها مكانتها في الثقافة العربية. معارك تقاطعت فيها الرؤى ما بين الانفتاح على الغرب وتقليده، والتمسّك بالهوية الثقافية والدينية للمجتمع.
ولعلّ من أبرز الشهادات التاريخية التي توثق لهذه المعارك والنقاشات الثقافية، ما ذكرته السيدة المصرية الرائدة "هدى شعراوي" في مذكراتها عن هذه القضية، حيث ذكرت أن الكاتب والمفكر الكبير الأستاذ "سلامة موسى" أرسل إليها كتابًا يقترح فيه أن تطلب من وزارة الحقانية (وزارة العدل حاليًا) سنّ قانون يُساوي بين المرأة والرجل في الميراث، وأرفق مع خطابه محاضرة له عن نهضة المرأة في مصر كانت قد نشرتها صحيفة المقطم المصرية العريقة.
إلا أن "شعراوي" رفضت هذا الاقتراح، وبيّنت موقفها في مقال نُشر بجريدة السياسة، أكدت فيه أن قضيّة الميراث ليست من اختصاص جمعية الاتحاد النسائي التي ترأستها، كما أوضحت أن الجمعية تنطلق من خصوصية المجتمع المصري وقيمه، وأن النسوية المصرية له خصوصيتها التي تختلف عن نظيراتها في أوروبا بسبب الفروق الجوهرية في النظم القانونية والتشريعية بين الدول.
وبأسلوب راقٍ وبأدب جم، فنّدت "شعراوي" رأي الأستاذ صبري المؤيد للمساواة في الميراث، مشيرة إلى أن المرأة المصرية لم تشتكِ يومًا من هذا الجانب، وأنها مؤمنة بأن الشريعة الإسلامية قد حمّلت الرجل مسؤولية الإنفاق على المرأة وعلى أبنائها، ما يجعل التفاوت في الميراث قائمًا على مبدأ العدل لا المساواة المطلقة.
واعترضت كذلك على قول "صبري": "لو كانت الفتيات يرثن مثل إخوتهن الذكور، لكان في ثروتهن إغراءٌ للشباب في الشرق على الزواج..."، واعتبرته قولًا غير وجيه، واصفة الإحجام عن الزواج بالمرض، وموضحة أن هذا المرض في أوروبا أخطر بكثير من الشرق، رغم أن المرأة هناك تتساوى مع الرجل في الميراث.
كما رفضت ادعاء "صبري" بأن "قاسم أمين" كان يعتزم المطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الإرث، واعتبرت ذلك رجمًا بالغيب، مؤكدة أن "أمين" كان يسعى إلى جعل المرأة عضوًا نافعًا في المجتمع، مؤهلة لتحمّل مسؤوليتها في خدمة أسرتها ووطنها.
من جهة أخرى، كان للأديب الكبير والمفكر العملاق "مصطفى صادق الرافعي" موقف أشد حدة في هذه القضية، إذ انتقد ما طرحه "سلامة موسى"، واصفًا إياه بضعف التفكير، وسوء التقليد، وعدم التمييز بين الرأي الثابت المبني على حكمة، والرأي المتقلب الناتج عن غفلة أو اضطراب في النفس.
كما هاجم "الرافعي" مقولة "صبري" حول المساواة في الميراث باعتبارها محفزًا للشباب على الزواج، واعتبرها عبارة مُهينة، تشمئز منها النفوس الكريمة، واصفًا إياها بالإسفاف الأخلاقي الذي لا يعرفه الإسلام، بل يرفضه وينقضه، مذكرًا بأن الإسلام يدعو الرجال إلى تحمّل المسؤولية لا إلى اللهث وراء الثروة.
إن قراءة هذه المواقف التاريخية تكشف لنا أن قضية ميراث المرأة لم تكن يومًا جديدة على الساحة الفكرية في مصر، بل كانت ولا تزال ساحةً لحوارٍ فكري متجدد، بين تيار يسعى لمواءمة ما هو محلي بما هو عالمي، وتيار آخر يُحافظ على الهوية ويرسخ لضرورة التمسك بالخصوصية الثقافية والدينية للشعوب.
لكن ما يميز الماضي أن المعركة فيه كانت فكرية خالصة، لا يُتّهم فيها المحافظ على القيم المتمسك بها بالتطرف والجمود، ولا يُشوّه فيها المعارض بتهم جاهزة، بل كان النقاش قائمًا على الحجة والمنطق والنقاش العلمي القوي المدعوم بالأدلة والبراهين.
وما أحوجنا اليوم إلى استعادة هذا النموذج في إدارة خلافاتنا الفكرية، بعيدًا عن التشنج، والتصنيف، وشيطنة الآخر.