الرياضة في مصر القديمة.. إرث حضاري سبق الألعاب الأولمبية
من يتأمل جدران المعابد المصرية القديمة يجد أن الرياضة لم تكن مجرد وسيلة ترفيهية، بل كانت جزءًا أصيلًا من نسيج المجتمع المصري القديم، تعبر عن القوة والانضباط، وتحمل رمزية دينية وثقافية عميقة. وفى الوقت الذي تُنسب فيه الألعاب الأولمبية إلى الحضارة اليونانية، كان المصري القديم قد سبقها بمفاهيم رياضية مُتقدمة أثرت لاحقًا في تطور الفكر الرياضي عالميًا.
أدرك المصريون القدماء منذ آلاف السنين أهمية التوازن بين الجسد والعقل وشغلت الرياضة مكانة بارزة فى الحياة اليومية خاصةً بين فئات الجنود والطلبة والأمراء، وكان يتم تدريب الشباب على الرياضة ضمن منظومة تعليمية تهدف إلى إعداد مواطن قوي البنية ، متزن العقل ، قادر على خدمة الدولة والدفاع عنها ، فيذكر الأمیر "خیتي" من عصر الدولة الوسطى "لقد سمح لي الملك أن أتلقى دروسًا فى السباحة" ، كما يوجد نص للملك "أمنحتب الثاني" بالمعبد الذي أقامه داخل حرم ابو الهول یقول فيه "أن لا أحد یستطیع أن یجاریه في العدو".
وتنوعت الرياضات التي مارسها المصري القديم ، وكان أبرزها المصارعة والتي ظهرت بوضوح في مقابر واسوان وغرب طیبة وبني حسن ومیر ودیر البرشا، في وضعيات مُختلفة تعكس مستوى تقنيًا متقدمًا ، وأقدم منظر للمصارعة موجود بمقبرة الوزیر "بتاح حتب" بسقارة من عصر الأسرة الخامسة ، بجانب ظهور مناظر لرياضات السباحة ورفع الأثقال والعدو والعاب الكرة التي تظهر بمقابر بني حسن وتمارسها فتيات ، ويحتفظ المتحف المصري بالتحرير بعدد من الكرات وكانت مصنوعة من الجلد الذي يحشى بالیاف النخیل او القش ، بالاضافة إلى المبارزة بالعصا التي لاتزال مُنتشرة في صعيد مصر حتى الآن باسم "التحطیب".
لم تكن الرياضة في مصر القديمة مجرد أداء بدني بل حملت في طياتها طابعًا رمزيًا، فالجري في عيد السد كان يُمثل التجدد والبقاء، والمصارعة كانت تُعرض فى الاحتفالات كرمز للقوة والانتصار على الفوضى، بل إن بعض الرياضات كانت تُمارس في الطقوس الدينية لتقوية العلاقة بين الإنسان والمعبودات القديمة.
رغم أن أول دورة أولمبية سُجلت في اليونان إلا أن الرياضات التي عرفها الإغريق كانت في معظمها تمارس بالفعل بمصر قبل ذلك بقرون ويرجح الكثير من المؤرخين أن الاتصال الثقافي بين مصر واليونان خاصةً خلال عصر الأسرة السادسة والعشرين قد ساهم في نقل بعض مفاهيم الرياضة المُنظمة من مصر إلى اليونان. فالرياضة كما عرفها المصري القديم كانت خاضعة لقواعد وتُمارس في أوقات محددة، وتُستخدم لأهداف تعليمية وروحية ، وهى مفاهيم أساسية في أي منافسة أولمبية تمت بعد ذلك ، فالمصري القديم لم يمارس الرياضة فقط بل أسس لفكر رياضي شامل ، يقوم على الانضباط والاحترام والتوازن بين الجسد والروح.
إن دراسة الرياضة في مصر القديمة ليست مجرد رجوع إلى الماضي، بل هي استحضار لقيم إنسانية راقية سبقت زمانها، وربما ساهمت في صناعة حضارة ما زالت تبهر العالم حتى يومنا هذا.