عاجل

دراسة: العلاقات التركية الأوروبية نموذج مُركب من التحالفات والتداخلات الاقتصاد

تحالفات تركية أوروبية
تحالفات تركية أوروبية

لطالما مثلت العلاقات التركية الأوروبية نموذج مُركب من التحالفات والتداخلات الثقافية والاقتصادية والجيوسياسية، ناتجة عن تباين أولويات الجانبين في ملفات الهجرة واللاجئين وتراجع الديمقراطية وحقوق الإنسان، لتعود العلاقات بين الجانبين لاتخاذ مسارات براجماتية أقل تصادمية، لاعتبارات اعتماد التقارب الجغرافي الذي فرضته حالة اللايقين مُنذ اندلاع حرب أوكرانيا حتى ولاية ترامب الثانية.

علاقات مٌتأرجحة

مرًت العلاقات التركية - الأوربية بمراحل من الصدام وأخرى من التعاون، كما تتباين آراء القوى الأوروبية في إمكانية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، مما كان سببًا لتباطؤ عملية الانضمام والتي يرجع سعي تركيا إليها مُنذ عام 1987. وتعددت مُسببات الرفض واجتمعت في التخوف من نهج السياسة التركية على المستويين الداخلي والخارجي فيما يتمثل بتراجع حقوق الإنسان وتسيس القضاء وتدهور سيادة القانون، بينما على المستوى الخارجي تمثلت في التخوف من أن تُصبح دولة إسلامية كبيرة عضوًا كاملًا داخل ذلك النادي المسيحي. بالإضافة إلى، نشوب بعض التوترات بين الحين والآخر مع قبرص وسياسات تركيا الإقليمية برمتها، كل هذا يمثّل عائقًا أمام تركيا في طريق الانضمام للاتحاد واقتصار العلاقات مع دول الاتحاد على إنشاء قنوات شراكة مُميزة تتضمن التعاون بدلًا من إعطاء العضوية الكاملة وتحمل تبعاتها.

بدأ إحياء العلاقات بعد مرور العلاقات التركية - الأوروبية بفترة توتر نتيجة لما اعتبرته أوروبا أعمال قمع وتنكيل في الداخل التركي، ليظهر ملف المهاجرين إلى أوروبا على الساحة عامي 2015-2016 ليُغير مسار العلاقة إلى مزيد من التعاون في ملف المهاجرين من خلال إبرام اتفاق يمنع تدفق المهاجرين إلى أوروبا والعمل على استعادة تركيا للمهاجرين إلى اليونان والعمل على تعزيز الديمقراطية في الداخل التركي بما يتوافق مع معايير الاتحاد، في المقابل تحصل تركيا على تمويلات تُقارب 6 مليارات يورو لدعم اللاجئين السوريين مع تنشيط واستئناف مساعي عضويتها.

دخلت العلاقات بين أنقرة وبروكسل مرة أخرى من التوتر شهدت تجميد مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بشكل كلي في عام 2018، مع إلحاقها بفرض عقوبات. وجاء هذا التحول في أعقاب الانقلاب الفاشل ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان 2016 نتج عنها ممارسة تركيا لسياسات صارمة لتوسيع صلاحيات الرئيس مع تقليص دور البرلمان طبقًا لاستفتاء 2018، مما عزز السيطرة التنفيذية على القضاء والخدمة المدنية، مع تراجع الحريات وممارسة الحقوق المدنية. كما أسفرت تلك الإجراءات عن اعتقال حوالي 78.000 وفصل ما يزيد عن 110.000 موظف حكومي. علاوة على تراجع العلاقات مع القوى الأوروبية خاصة ألمانيا وهولندا نتيجة لاحتجاز تركيا عدد من المواطنين الأوروبيين بدعوى دعم "المنظمات الإرهابية".

تزامنًا مع أعمال التنقيب غير المصرح به من قبل تركيا 2019 في مياه شرق المتوسط قرب حدود قبرص تصاعدت وتيرة التوترات بين الطرفين؛ ليزيد الأمر سوءًا إلى إلغاء كافة اجتماعات الشراكة الأوروبية التركية ووقف المحادثات رفيعة المستوى حول قضايا الاقتصاد والأمن والطاقة مع قطع تمويلات اللاجئين، ليُقابله إعلان أردوغان بإيقاف التعاون في ملف الهجرة واستخدامه كورقة ضغط، شجعت عشرات الآلاف من المهاجرين لشق طريقهم نحو الحدود اليونانية.

جاءت محولات التهدئة والانفتاح الحذر في الفترة من 2020 إلى 2023 إثر استراتيجية مزدوجة اتبعها الاتحاد الأوروبي تحت إطار أسلوب الترغيب بإطلاق أجندة إيجابية تركز على التعاون الجمركي والتهديد بفرض مزيد من العقوبات، باتت هذه السياسة الحل الأمثل نتيجة تباين منظور الأعضاء في زاوية التعاطي التركي، حيث يرى بعض الأوروبيين كتهديد بينما يعتبرها البعض الآخر على أنها شريك استراتيجي مهم ولا ترغب في تطبيق مدى أوسع من العقوبات، ونتيجة لهذه التغيرات باتت تركيا تتبنى لهجة أقل تصادمية تهدف لبناء علاقات أفضل مع وقف تحركاتها البحرية واستئناف العلاقات الدبلوماسية والمحادثات مع اليونان، وعلى الرغم من الترحيب الأوروبي بالتغير الجديد إلا أن ظلت خلال تلك الفترة عالقة في مسار التقدم الحذر.

الشراكة الجديدة

اتخذت العلاقات التركية الأوروبية مسار استئناف الحوار السياسي في أبريل 2024 من خلال عقد لقاءات رفيعة المستوى أكدت خلالها أوروبا على أهمية العلاقات مع تركيا نظرًا لدور المحوري في الأمن الأوروبي، ونوهت المفوضية الأوروبية في أكتوبر الماضي على استمرار التحديات في مجالات الديموقراطية وحقوق الإنسان في الداخل التركي، مع ظهور بعض التوترات الطفيفة على الرغم من تحسن العلاقات بين تركيا واليونان منذ عام 2023، إلا أن تركيا تستمر في موقفها المناهض لإعادة توحيد قبرص.

على الرغم من تعارض المصالح ونشوب التوترات بين الحين والآخر وتباطؤ عملية الانضمام التركي للاتحاد الأوروبي ووضعها في صورة المرشحة دائمًا للعضوية، إلا أن تركيا لم تكل الدعوة لاتخاذ خطوات ملموسة لتعزيز العلاقات الثنائية وإشراكها في برامج الأمن الأوربي “مرفق السلام الأوروبي“، وتأكيد أردوغان على أهمية الدور التركي على مختلف الأصعدة والاستعداد للعب دور أكبر في ضمان الأمن الأوروبي في ظل الصراع القائم في أوكرانيا، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع روسيا وأوكرانيا، مشيرًا إلى مساعي بلاده تركيا السابقة لتسوية الحرب وإجراء مفاوضات للسلام في 2022، كما أشار إلى قبول الدعم الأوروبي لدمج تركيا في الأطر الأمنية والدفاعية الأوروبية المستقبلية.

ومع تصدر اعتقال إمام أوغلول المشهد السياسي في تركيا، برز تراجع الاهتمام الأوروبي بالحريات ودعم الديموقراطية مع الإعراب عن القلق وإعلان مفوضة التوسع في الاتحاد الأوروبي مارتا كوس اجتماعًا مع تركيا احتجاجًا على الحادثة، ولم يأت الامتعاض الأوروبي من قضية إمام أوغلو إلا عبر استنكارات رمزية لم تحمل في طياتها الرد العنيف كالسابق؛ ويرجع هذا لعدة أسباب أولها تباين المواقف الأوروبية تجاه تركيا؛ فالبعض يراها شريكًا استراتيجيًا والبعض الآخر يعتبرها تهديد، وثانيها أن عودة ترامب للبيت الأبيض وتفضيلاته في إقامة شراكة ثنائية مع القوى الأوروبية بدلًا من التكتل الأوروبي مع تهديداته المتكررة وانتقاداته حول أوروبا والناتو خلّف شرخًا في جدار الثقة بين أوروبا والولايات المتحدة، بدأ التشدد تجاه تركيا باعتباره أولوية ثانوية لعدم توافق أوروبي ولا دعم أمريكي كما في السابق مع الالتفات إلى دور تركيا المحتمل في ضمان أمن أوروبا.

أهمية متزايدة

تتصف العلاقات بين الطرفين في الوقت الحالي بالجيدة وتقوم على ركيزة المصلحة من منطلق الاعتماد على التقارب الجغرافي؛ لتعزيز الأمن الاقتصادي في ظل حالة عدم اليقين التي يشهدها العالم بدءًا من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين مرورًا بالحرب في أوكرانيا وصولًا لسياسات ترامب وتأثيرها على الأمن الأوروبي برمته، ويمكن استعراض أهمية العلاقات التركية الأوروبية في الملفات التالية:

(*) التعاون الدفاعي: جاءت الولاية الثانية لترامب ببداية غير مُبشرة لدول الاتحاد إثر انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ ورفع الرسوم الجمركية على الاتحاد الأوروبي ليزيد الأمر سوءًا بتقليص الدعم لأوكرانيا وفتح قنوات اتصال مع روسيا وأخيرًا التهديد بالانسحاب من حلف الناتو في حالة عدم التزام الدول الأعضاء بإنفاق 5% من الناتج المحلي على الإنفاق الدفاعي. ودفعت تغيرات الإدارة الأمريكية الجديدة نحو الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا والاعتماد الذاتي من خلال تقديم خطة فون دير لاين لإعادة التسلح الأوروبي وزيادة الإنفاق العسكري لما يُقارب 800 مليار يورو، لتأتي دعوات أوروبية على لسان المستشار الألماني المنتهية ولايته أولاف شولتس في 7 مارس 2025 أن الاتحاد يُرحب بالانتفاع التركي من موازنة الدفاع الجديدة المُقدرة 150 مليار يورو.

وتلعب تركيا دورًا رئيسيًا في الجناح الجنوبي للحلف، كما تٌعد ثاني أكبر قوى برية بتعداد يتجاوز 750 ألف جندي من القوات العاملة والاحتياطية والمركز التاسع عالميًا ضمن أقوى الجيوش لعام 2025 مع ارتفاع صادرات الأسلحة العالمية لنحو 1.7 مليار دولار بين عامي 2020-2024 والذي يدرجها في المرتبة الحادية عشر في قائمة الدول المصدرة للأسلحة والنظم الدفاعية، مما يؤهل أنقرة لتكون شريكًا في صياغة السياسات الدفاعية الأوروبية المستقلة.

(*) الموقع الاستراتيجي: تحظى تركيا بموقع استراتيجي واتصال دبلوماسي على نطاق واسع مما يعزز دورها في تحقيق الاستقرار الإقليمي بكل من الشرق الأوسط وأوروبا، وشهدت السنوات الأخيرة جهودًا للوساطة التركية في مختلف القضايا، بما قد يسهم في تعزيز التعاون مع الاتحاد الأوروبي والعالم الخارجي، وعلى رأسها جهود تسوية الحرب الروسية الأوكرانية من خلال فتح قنوات اتصال يُمكن أن تسفر في تحقيق السلام.

كما أن لأنقرة دور بارز منذ اندلاع الحرب على الرغم من سياسة الحياد التي اتبعتها، إلا أن ذلك لم يحل دون تزويدها لأوكرانيا بالطائرات المُسيرة والقذائف، والنجاح في التوصل إلى اتفاقية تصدير الحبوب من روسيا وأوكرانيا تحت رعاية الأمم المتحدة.

على الجانب الآخر لا تقتصر الأهمية التركية داخل حدود الشراكة الأوروبية، بل تزيد لكونها درعًا حدوديًا من ناحية الشرق وخاصة سوريا التي أثر النزاع الدامي فيها على مدار 13 عامًا على أمن القارة الأوروبية من عدة جوانب ومنها موجات الهجرة واللجوء وتوفير بيئة خصبة لنمو التنظيمات الإرهابية وعمليات الذئاب المنفردة في أنحاء القارة والتي بلغت ذروتها عام 2015، ولكن تركيا مؤهلة لفتح قنوات اتصال بين أوروبا والإدارة الانتقالية لتهدئة مخاوف بروكسل وتعزيز علاقات دمشق مع المجتمع الدولي.

على هذا النحو تعتمد أوروبا على تركيا في ضبط موجات الهجرة غير النظامية نحو أوروبا، حيث استضافة تركيا ما يُقارب من 3.5 مليون سوري و600 ألف من جنسيات أخرى، وبالنظر إلى المخاوف الأوروبية المتزايدة تجاه المهاجرين وانعدام الوحدة بين أعضائها لتوحيد سياسات الهجرة واللجوء، يظل الحل الأمثل في الاستعانة بالطرف الثالث لتحييد تلك الأزمة عن حدود الاتحاد، وتعد تركيا حجر الزاوية في إدارة تدفقات الهجرة منذ عام 2016، تستخدم تركيا تقنيات متقدمة في أنظمة المراقبة وإدارة الهجرة مدعومة بالذكاء الاصطناعي والطائرات دون طيار لرصد ومنع العبور غير القانوني مع التعاون في تعطيل شبكات تهريب والإتجار بالبشر في شرق المتوسط تحت مبادرة "تميز".

وعلى الجانب الآخر ضمنت ميزة الموقع لتركيا دورها كمحور رئيسي في ضمان أمن الطاقة الأوروبي باعتبارها ممر رئيسي لنقل الغاز من أذربيجان وروسيا وإيران من خلال خطوط الغاز “تاناب” و”تورك ستريم”، بالتوازي مع السياسة التركية الهادفة لتوقيع عقود طويلة الأجل لتعزيز دورها في إعادة التصدير الغاز والتي خلفت فائض غاز يقارب 25 مليار متر مكعب، وآخرها توقيع اتفاق مع توتال إنرجيز في سبتمبر الماضي لمدة 10 سنوات لتوفير 1.1 مليون طن متري من الغاز الطبيعي المسار بدءًا من عام 2027.

(*) العلاقات الاقتصادية والتجارية: كما تمثل تركيا شريكًا اقتصاديًا هامًا لأوروبا، حيث ارتفع التبادل التجاري في عام 2025 لنحو 215 مليار دولار، بنسبة ارتفاع بلغت 55.2% عن عام 2023، مما يجعل أنقرة بالمركز الخامس كأكبر شريك تجاري لبروكسل، مما يزيد من أهمية تركيا كممر لتجارة الاتحاد مع الشرق الأوسط وإفريقيا ولتأمين الإمداد وقصر المسافة تحت إطار اتفاقية الاتحاد الجمركي.

ختامًا؛ تبقى العلاقات التركية - الأوروبية غير قابلة للفصل التام أو الاندماج الكامل بقبول أنقرة كعضو فاعل داخل الاتحاد الأوروبي، فما بين بقاء تركيا مُرشحة للانضمام باعتبارها شريك استراتيجي حيوي داخل الإقليم لاعتبارات أمنية ومحددات تُمليها الجغرافيا والمصالح المشتركة، تبقي مسارات الخلاف في القضية القبرصية وتراجع الديموقراطية وحقوق الإنسان والحذر الأوروبي بشكل عام، ولكن كأولوية ثانوية وأقل تصادمية مع إعلاء المصلحة. وتظل العلاقة مشروطة بمدى التزام تركيا بتحقيق معايير كوبنهاجن لتحييد الخلافات مع أوروبا مع مدى المرونة والبراجماتية لاستغلال الوضع القائم في ظل الاعتماد التركي الأوروبي المتبادل لضمان أمنهما الاقتصادي.

تم نسخ الرابط