عاجل

لم تكن الحرب في السودان مجرد اشتباك عسكري بين قوتين، بل تحولت إلى مشهد مأساوي مفتوح على كل الكوارث، وساحة دامية تتناسل فيها الأوجاع، وتصهر فيها الجغرافيا والديموغرافيا في أتون من الفوضى والعجز والتجاهل ومع دخول الأزمة السودانية عامها الثالث، تتبدى الحقيقة أكثر قسوة: إنها حرب بلا ضوء في آخر النفق، وبلد بات منسيا على خرائط الاهتمام الدولي، وشعب يدفع، وحده، أثمانا باهظة من الدم والخبز والمأوى والأمان.

لقد بدأت الحرب في السودان في أبريل 2023 بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي"، لكنها لم تكن مجرد معركة نفوذ بين جنرالين، بل كانت انفجارا مؤجلا لصراعات معقدة تمور في العمق منذ سنوات، بين مركز مأزوم وأطراف مهمشة، بين سلطة تائهة وشعب معلق في فراغ الدولة.

السودان... من جرح الثورة إلى نزيف الحرب

لم يكن السودان قد تعافى بعد من جراحات الانتقال السياسي عقب سقوط نظام البشير في 2019، حتى وجد نفسه مجددا في عين العاصفة وبين الارتباك في إدارة المرحلة الانتقالية، وتكالب المصالح الدولية والإقليمية، وغياب مشروع وطني جامع، كانت الأرض ممهدة لانفجار العنف المسلح غير أن ما بدأ كصراع محدود بين قوات الجيش والدعم السريع في الخرطوم، سرعان ما تمدد وتحول إلى حرب شاملة تمزق البلاد أفقيا ورأسيا.

في العامين الماضيين، لم تبق الحرب على شيء..العاصمة انقسمت على نفسها، والمناطق التي كانت تنعم بالهدوء أصبحت ميادين للقتل والنزوح، وملايين السودانيين شردوا من منازلهم في موجة نزوح تعد من الأكبر في العالم حاليًا أما البنية التحتية، فقد انهارت تحت وقع القذائف، والمدن التاريخية تحولت إلى خرائب، والأسواق خلت من قوت الناس.

تقدير موقف: من المراوحة إلى الغرق

من منظور تحليل استراتيجي، فإن الأزمة السودانية وصلت إلى حالة "مأزق الحرب الممتدة"، وهي مرحلة تفقد فيها الأطراف المتصارعة القدرة على الحسم، كما يعجز فيها المجتمع الدولي عن فرض تسوية، بينما تزداد كلفة الصراع يوما بعد يوم لا انتصار يلوح في الأفق، ولا هدنة تصمد، ولا مبادرة تجد طريقها للتنفيذ وفي المقابل، لعبت بعض الأطراف الدولية دور المتفرج، بينما انخرطت أطراف إقليمية في دعم هذا الطرف أو ذاك، ما جعل الصراع ساحة لحروب بالوكالة، وأفقد الجهود الدبلوماسية حيادها ومصداقيتها.

السودان في الإعلام العالمي... الغياب المريب

السؤال المؤلم هنا: كيف لحرب بهذا الحجم من الدمار والمعاناة أن تصبح "أزمة منسية" في عيون العالم؟ لماذا لا تحظى مأساة السودان بتغطية إعلامية أو تضامن دولي كما حدث مع أوكرانيا أو غزة؟

الإجابة تحمل أبعادا سياسية وجيوسياسية فالسودان لا ينتج خبز العالم كما تفعل أوكرانيا، ولا يهدد أمن أوروبا، ولا يتربع على طاولة البترول العالمي وهو بذلك يعد "هامشا" في موازين المصالح الدولية، مهما بلغت معاناة شعبه وفي ظل هذا التجاهل، تتكرس المأساة، ويتوارى صوت السودانيين خلف دخان البنادق.

فاتورة شعب... منسي ومكلوم

ثمانون بالمئة من المستشفيات خارج الخدمة، وفق تقارير الأمم المتحدة، وأكثر من 10 ملايين نازح، وقرى كاملة اتمحت من الوجود، وأطفال يولدون تحت النار ويكبرون بلا تعليم أو رعاية صحية و هذه ليست أرقاما، بل كوابيس يومية يعيشها المواطن السوداني.

لقد تحول الشعب السوداني، إلى ضحية للصراعات وإلى شهيد منسي على مذبح اللامبالاة الدولية الفقر يتوحش، المجاعات تقترب، والنسيج المجتمعي يتآكل والمستقبل؟ لا ملامح له.

الرؤية المصرية... ثابتة ومبدئية

منذ اليوم الأول، تبنت مصر موقفا مبدئيا في دعم استقرار السودان ووحدة أراضيه، بعيدا عن الاصطفاف مع أي طرف، فالقاهرة تدرك أن أمن السودان هو من أمن مصر، وأن انزلاق السودان إلى الفوضى سيؤدي إلى كارثة إقليمية تتجاوز حدوده.

لكن لا بد من تحرك دولي حقيقي، مبني على دعم مسار سياسي شامل، يضمن تمثيل كافة مكونات الشعب السوداني، ويقطع الطريق أمام مشاريع التقسيم أو استمرار الحرب كأمر واقع.

نعم، بعد عامين، تبدو الحرب وكأنها باتت "طبيعية" في مشهد سوداني غارق في الألم لكنها ليست كذلك إنها جريمة مستمرة، وإن أسوأ ما يمكن أن يحدث، ليس فقط استمرار الحرب، بل أن يتحول السودان إلى "سوريا جديدة" بصيغة أفريقية، أو إلى صومال آخر وسط القارة.

إن واجبنا كعرب، وكمجتمع دولي، ألا نغلق النوافذ على السودان، وألا نترك شعبه يسحق في الظل فكل لحظة صمتٍ أمام هذه المأساة، هي تواطؤ، وكل غياب عن المشهد، هو طعنة في قلب وطن يستحق الحياة.

تم نسخ الرابط