في قلب حي الظاهر بالقاهرة، يقف جامع الظاهر بيبرس البندقداري شامخًا كواحد من أهم المعالم التاريخية التي تعكس عظمة العمارة الإسلامية في العصر المملوكي. هذا الجامع ليس مجرد بناء ديني، بل هو شاهد على حقبة تاريخية غنية بالأحداث والإنجازات التي سطّرها السلطان الظاهر بيبرس، أحد أعظم حكام دولة المماليك البحرية.
بني الجامع بين عامي 665 و667 هـ (1266-1269م)، ليصبح مركزًا دينيًا واجتماعيًا يعكس روح العصر.
السلطان الظاهر بيبرس، واسمه الكامل الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتوح بيبرس البندقداري الصالحي النجمي الأيوبي، كان قائدًا عسكريًا بارعًا وحاكمًا مصلحًا. ولد بيبرس في صحراء القفجاق، وبيع كعبد في دمشق، ثم اشتراه الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري، ليبدأ رحلته نحو المجد. بعد تحريره، انضم إلى المماليك البحرية، وشارك في معارك مصيرية مثل موقعة عين جالوت التي هزم فيها المغول.
تولى بيبرس حكم مصر عام 658 هـ (1260م) بعد مقتل السلطان المظفر قطز، وأصبح رابع حاكم لدولة المماليك البحرية. أعاد الخلافة العباسية إلى مصر بعد سقوط بغداد، ولقب نفسه بـ"قسيم أمير المؤمنين"، ليعزز مكانته كحامي الإسلام.
تميزت فترة حكم بيبرس بالعديد من الإصلاحات والإنجازات التي جعلته قريبًا من الشعب المصري. من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، قام بإلغاء الضرائب التي فرضها سلفه الملك المظفر قطز، وأغلق الحانات ومنع البغاء العلني، مما ساهم في تعزيز الأخلاق العامة. كما اهتم بمجالات الزراعة والتجارة والصناعة، وحرص على بناء الجسور والقناطر، مما أدى إلى تحقيق ازدهار اقتصادي كبير. أما فيما يخص الرياضة والترفيه، فقد أنشأ ميدانًا رياضيًا في ظاهر القاهرة لممارسة الفروسية والرماية وسباقات الخيل، ليكون متنفسًا للشعب. وعلى الصعيد العسكري، قاد بيبرس حملات ناجحة ضد الصليبيين، وتمكن من فتح مدن استراتيجية هامة مثل يافا وطرابلس وأنطاكية.
يُعد جامع الظاهر بيبرس تحفة معمارية تمثل روعة العمارة الإسلامية. يتكون الجامع من أربع واجهات رئيسية تحتوي على ثلاثة مداخل تذكارية بارزة. من الداخل، يضم الجامع صحنًا مكشوفًا تحيط به أربعة ظلات، أكبرها ظلة القبلة التي تحتوي على محراب ومقصورة كانت تتوجها قبة ضخمة.
تتميز واجهات الجامع بشرافات وأبراج ضخمة مزينة بشكل فخم، وقد زُينت بوجود 72 نافذة مملوءة بالجص المعشق بالزجاج الملون، مما يمنحها جمالاً ساحرًا. يقع المدخل الرئيسي للجامع في الجهة الشمالية الغربية، ولكن هناك مداخل أخرى إضافية في الجهات الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية. أما من الداخل، فإن الجامع يضم صحنًا مكشوفًا تحيط به الظلات، وتعتبر ظلة القبلة هي الأكثر أهمية حيث تحتوي على ستة أروقة موازية لجدار القبلة. يتميز الجامع أيضًا بالمقصورة التي كانت تتوجها قبة ضخمة، مما يعطي المكان طابعًا مهيبًا ورونقًا خاصًا.
على مر العصور، شهد جامع الظاهر بيبرس تغييرات عديدة. في عهد السلطان جقمق، تم تجديده، بينما استخدمه الفرنسيون كقلعة خلال الحملة الفرنسية. لاحقًا، حوله محمد علي إلى مصنع للصابون، واستخدمه الجيش البريطاني كمذبح. وفي عام 1918، حُوّل صحن الجامع إلى متنزه عام.
اليوم، يظل هذا الجامع رمزًا للعمارة الإسلامية ولعظمة السلطان الذي بناه، ليذكرنا بتاريخ مصر الحافل بالإنجازات. جامع الظاهر بيبرس ليس مجرد مكان للعبادة، بل هو نافذة تطل على حقبة مجيدة في تاريخ مصر والإسلام.