عاجل

في ظل التسارع الهائل الذي يشهده العالم المعاصر، لم يعد المشهد الديني بمنأى عن هذا التحول. فقد برزت في الساحة الإسلامية ظاهرتان متقابلتان: تدين أصيل يعبر عن جوهر الرسالة الإلهية ومقاصدها الكبرى، وتدين مغشوش مشوه الملامح والمضامين، يتكئ على مظاهر شكلية وفهوم مغلوطة تُسيء إلى الدين أكثر مما تخدمه.

إن التدين الصحيح ليس مجرد التزام شكلي أو انخراط آلي في شعائر العبادات، بل هو حالة من الفهم العميق للنصوص الشرعية، تنبني على مقاصد الشريعة وموروث العلماء الراسخين في العلم، وتتجلى في السلوك الإنساني الذي يترجم القيم الدينية إلى واقع مُعاش. فالمتدين الحق يعي أن الغاية من الدين هي تهذيب النفس، وتعميم الرحمة، وتعزيز العدل، وصيانة كرامة الإنسان وحفظ المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، بغض النظر عن دينه أو ثقافته أو عرقه.

ويتميز هذا النمط من التدين بالاعتدال والوسطية، وهو ما تؤكده نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، حيث يقول تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، ويقول سيدنا النبي صلى الله عليه آله وسلم "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا" (رواه البخاري). التدين الصحيح، إذًا، ليس دعوة للتشدد، بل طريق للتوازن الروحي والأخلاقي والاجتماعي.

في المقابل، نجد أن التدين المغشوش قد تفشى في أوساط كثيرة، خاصة في ظل الانفتاح الإعلامي غير المنضبط على منصات التواصل الاجتماعي، وضعف المرجعيات الدينية لدى بعض الأفراد. ويقوم هذا التدين على اختزال الدين في شكليات سطحية، كالمظهر الخارجي أو طقوس عبادة منفصلة عن مقاصدها الأخلاقية والإنسانية. بل الأسوأ من ذلك، أن التدين المغشوش غالبًا ما يستند إلى تأويلات مشوهة للنصوص الشرعية، ويُوظف الدين لأغراض سياسية أو أيديولوجية أو سلوكية، بعيدة كل البعد عن روح الشريعة.

ومن أبرز مظاهره: الغلو والتشدد وفرض الآراء بالقوة، واستسهال التكفير والتفسيق والتبديع دون علم ولا فقه، وتقديس الظواهر الشكلية على حساب الجوهر. وتزداد الخطورة حين يُساء استخدام المصطلحات الشرعية في غير موضعها، كاستخدام ألفاظ من مثل "الولاء والبراء"، و"الردة"، و"الجهاد"، و"الحاكمية"، خارج سياقاتها الشرعية، وبعيدًا عن فقه الواقع والمآلات والمصالح والمفاسد، والجهل بالمقاصد العليا للشريعة الإسلامية التي جاءت لحفظ النفس والدين والعقل والمال والعِرض.

ويُلاحظ أن أصحاب هذا النمط من التدين غالبًا ما يتبعون شخصيات غير متخصصة في العلوم الشرعية، ويستقون فهمهم من مقاطع مجتزأة على منصات التواصل الاجتماعي، أو من دعاة لا يمتلكون أدوات العلم الشرعي الرصين وفقه الواقع، مما يؤدي إلى فوضى فكرية وسلوكية تنعكس سلبًا على الفرد والمجتمع.

في هذا السياق، تواجه منظومة التدين الصحيح تحديات جسيمة، على رأسها فوضى الخطاب الديني على الإنترنت، وظهور من يُفتون بغير علم، ونشرهم لتدين مشوه عبر مقاطع مختزلة ومضللة. كما أن منصات التواصل الاجتماعي فتحت المجال لكل من أراد أن يتصدر المشهد الديني دون تأهيل، مما خلق حالة من الارتباك المعرفي والتشويش السلوكي لدى قطاعات من الناس، خصوصًا من فئة الشباب.

وبالتالي، فإن المعركة اليوم ليست فقط بين تدين وآخر، بل بين فهم صحيح يعزز الاستقرار والعيش المشترك، وفهم مغشوش يقود إلى الفوضى والانقسام.

يتطلب الواقع الحالي جهدًا مشتركًا بين العلماء والمؤسسات الدينية والهيئات الإفتائية على مستوى العالم لإعادة الاعتبار للفهم الصحيح للدين، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، وتحصين المجتمعات من خطابات الغلو والكراهية. كما أن التربية الدينية الرشيدة، القائمة على العلم والتأصيل، لا على التلقين والانفعال، أصبحت ضرورة ملحّة لبناء وعي ديني سليم.

ولعل من أبرز الأدوار المطلوبة في هذا السياق: ضبط الخطاب الإفتائي عالميًا، وترسيخ القيم الإسلامية الأصيلة التي تدعو للرحمة والتسامح، وتقديم نماذج عملية للتدين المتوازن الذي يحقق طمأنينة الفرد واستقرار المجتمع، وهو ما تقوم به دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم بالتنسيق مع مختلف المؤسسات الإسلامية على مستوى العالم.

إن التدين الصحيح ليس خيارًا فرديًّا فحسب، بل هو ضرورة اجتماعية وأمنية وإنسانية، تتوقف عليها سلامة المجتمعات وتماسكها. أما التدين المغشوش، فإنه لا يجلب سوى التشويه والصراع والانقسام. وبين هذين الخيارين، تقع مسؤولية الجميع – أفرادًا ومؤسسات – في دعم التدين الواعي، ونقد التدين المنحرف المغشوش، وتوجيه البوصلة نحو الفهم الرشيد الذي يُعلي من شأن الإنسان، ويحقق مراد الله في الأرض وعمارتها بالرحمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

تم نسخ الرابط