دراسة حديثة تكشف أضرار العمل الليلي على القلب والتمثيل الغذائي

في عالمٍ لم يعد ينام، حيث تتواصل أنشطة العمل الليلي في المصانع، والمستشفيات، وشركات الطيران، ومراكز الاتصالات، وحتى خدمات التوصيل على مدار الساعة، بات العمل الليلي جزءًا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي. إلا أن هذا النمط من العمل، الذي بات ضرورة للكثير من القطاعات، يقترن بأثمان صحية باهظة يدفعها الملايين من العاملين ليلًا، دون أن يشعروا.
فقد أثبتت العديد من الدراسات الطبية في العقود الماضية أن العمل في المناوبات الليلية يؤدي إلى اضطراب "الساعة البيولوجية" للجسم، ما يُحدث خللًا في وظائفه الداخلية ويزيد خطر الإصابة بأمراض مزمنة، أبرزها أمراض القلب، والضغط، والسكتات الدماغية، فضلًا عن مشاكل النوم، والقلق، والاكتئاب، والسكري.
لكن الآن، ومع صدور دراسة حديثة نُشرت في مجلة Nature Communications، يبدو أن هناك بصيص أمل وحلًا عمليًا بسيطًا، قد يكون بديلاً أو مكملًا للوسائل التقليدية في مواجهة أخطار العمل الليلي: تناول الطعام خلال ساعات النهار فقط، حتى لو كانت ساعات العمل تقع في الليل.
الساعة البيولوجية.. "المُوقّت الذكي" لجسم الإنسان
الساعة البيولوجية هي نظام داخلي في جسم الإنسان ينظم إيقاع النشاطات الفسيولوجية وفقًا لدورة الليل والنهار الطبيعية. هذا "المنبّه الداخلي" يؤثر على النوم، إفراز الهرمونات، درجة حرارة الجسم، والتمثيل الغذائي.
وعندما يعمل الإنسان ليلًا، فإنه "يخالف" برمجة جسده الطبيعية. هذا الخلل يُعرف علميًا بـ"اضطراب الإيقاع اليوماوي"، وقد ثبت ارتباطه بعدد كبير من المشاكل الصحية، أبرزها ارتفاع ضغط الدم وزيادة الالتهابات داخل الجسم، ما يهيئ بيئة خصبة لظهور أمراض القلب والشرايين.
تفاصيل التجربة: عزل كامل عن الزمن
في محاولة للبحث عن حلول غير تقليدية، أجرى فريق من الباحثين بقيادة البروفيسور فرانك شير من مستشفى "بريغهام" للنساء في بوسطن – التابع لكلية الطب بجامعة هارفارد – تجربة سريرية غير مسبوقة، شملت 20 متطوعًا من الشباب الأصحاء.
ما يميز هذه التجربة هو الدقة والصرامة العلمية؛ حيث تم عزل المشاركين تمامًا عن العالم الخارجي ومنعهم من معرفة الوقت الحقيقي. لم يكن بحوزتهم أي أجهزة إلكترونية أو ساعات، كما عاشوا في إضاءة خافتة، في بيئة محايدة زمنيًا.
تم تقسيمهم إلى مجموعتين:
- المجموعة الأولى: سمح لها بتناول الطعام فقط خلال ساعات النهار (وفق الساعة البيولوجية).
- المجموعة الثانية: تناولت الطعام خلال النهار والليل معًا، كما هو شائع في أوساط العاملين ليلًا.
نتائج حاسمة: الطعام في النهار يحمي القلب
عقب انتهاء مدة التجربة، والتي استمرت أسبوعين، قام الباحثون بقياس عدة مؤشرات حيوية مرتبطة بصحة القلب والأوعية الدموية، من بينها ضغط الدم، معدل ضربات القلب، ومستويات الالتهاب في الجسم.
النتائج كانت لافتة للغاية:
- المجموعة التي تناولت الطعام نهارًا فقط، حافظت على استقرار هذه المؤشرات الحيوية، ولم تظهر لديها أي علامات خطر.
- أما المجموعة الثانية، فقد سجلت ارتفاعًا واضحًا في مؤشرات التوتر الجسدي، منها زيادة ضغط الدم والالتهابات، وهي إشارات واضحة إلى أن أجسامهم بدأت "تدفع ثمن" مخالفة إيقاعها البيولوجي.
تأثير فوري ونتائج بعيدة المدى
ما يجعل هذه الدراسة مميزة ليس فقط دقتها، بل النتائج السريعة التي ظهرت في غضون أيام، ما يؤكد أن التزام الإنسان بإيقاعه الطبيعي – حتى ولو كان يعمل في أوقات غير طبيعية – يمكن أن يقيه من أخطار صحية جسيمة، دون الحاجة لأدوية أو تدخلات معقدة.
ما الذي تعنيه هذه الدراسة للعاملين ليلًا؟
الدراسة تفتح الباب أمام نهج جديد للوقاية الصحية في بيئات العمل الليلية. إذ لم يعد المطلوب فقط هو النوم الكافي، أو تناول طعام صحي، بل الالتزام بتوقيت الأكل نفسه. أي أن الإنسان الذي يعمل في المناوبة الليلية، عليه أن يتناول وجباته فقط خلال ساعات النهار، حتى وإن كان مستيقظًا طوال الليل.
هذا التغيير البسيط في السلوك الغذائي يمكن أن يكون بمثابة "لقاح وقائي" ضد مضاعفات العمل الليلي.
توصيات عملية ومهمة لأصحاب الأعمال والمؤسسات
إلى جانب التوصيات الموجهة للعاملين، تدعو الدراسة أصحاب الشركات، وإدارات المستشفيات، والمصانع، والمؤسسات الخدمية إلى:
- إعادة النظر في جداول تقديم الوجبات في أماكن العمل.
- توفير وجبات صحية في أوقات تتماشى مع الساعة البيولوجية للعاملين.
- إقامة حملات توعية حول مخاطر الأكل الليلي.
العودة إلى إيقاع الطبيعة
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتتداخل فيه ساعات الليل والنهار بفعل التكنولوجيا ومتطلبات العمل، تأتي هذه الدراسة لتُذكّرنا بأن أجسادنا لا تزال متمسكة بإيقاعها الأول، وأن مراعاة توقيت الأكل ليس رفاهية صحية، بل ضرورة بيولوجية.
قد يكون مفتاح صحتك... ليس فقط في ماذا تأكل، بل متى تاكل