لماذا الجهاز المناعي للنساء أقوى من الرجال؟.. دراسة جديدة تفسر الفروق

في كشف علمي من شأنه أن يُحدث نقلة نوعية في فهم العلاقة بين الجنس والجهاز المناعي، توصل باحثون من "جامعة موناش" و"مركز بيتر ماكالوم للسرطان" في أستراليا إلى أن الرجال والنساء لا يختلفون فقط في الشكل الظاهري أو التكوين الهرموني، بل إن الجهاز المناعي لديهم يعمل بطرق مختلفة جوهريًا.
ويفتح هذا الاكتشاف بابًا واسعًا أمام إعادة النظر في الطريقة التي نُشخّص ونعالج بها الأمراض المزمنة، حيث بات واضحًا أن ما يصلح من علاج للنساء قد لا يكون بنفس الفعالية للرجال، والعكس صحيح.
جوهر الدراسة: خلايا T التنظيمية في الأنسجة الدهنية تكشف الفروق البيولوجية
ركز الفريق البحثي في دراسته التي نُشرت مؤخرًا على نوع خاص من الخلايا المناعية يُعرف باسم "خلايا T التنظيمية" (Regulatory T cells)، وهي المسؤولة عن ضبط تفاعلات الجهاز المناعي ومنع حدوث الالتهابات المفرطة التي قد تتسبب بأمراض مزمنة.
وبينما اعتادت الأبحاث السابقة دراسة هذه الخلايا في الدم أو الأنسجة اللمفاوية، توجهت هذه الدراسة إلى بيئة غير تقليدية: الأنسجة الدهنية. وهنا كانت المفاجأة، حيث لاحظ العلماء وجود اختلافات واضحة في عدد هذه الخلايا ووظيفتها بين الذكور والإناث.
لماذا هذا الاكتشاف بالغ الأهمية؟
تكمن أهمية هذه الدراسة في أنها تُقدم تفسيرًا بيولوجيًا عميقًا للفروقات المعروفة منذ عقود بين الجنسين في معدلات الإصابة بالأمراض. فالنساء مثلًا أكثر عرضة لأمراض المناعة الذاتية، مثل الذئبة الحمراء والتصلب المتعدد، في حين يُصاب الرجال بنسبة أعلى بأمراض التمثيل الغذائي مثل السكري من النوع الثاني وأمراض القلب.
لكن السؤال ظل معلقًا: لماذا يحدث ذلك؟
تأتي هذه الدراسة لتُقدّم إجابة علمية محتملة: لأن الجهاز المناعي نفسه يعمل بطرق مختلفة في جسد المرأة عنه في جسد الرجل.
الدكتور فسانثاكومار يوضح: خطوة نحو طب مخصص حسب الجنس
صرّح الدكتور "أجيث كومار فسانثاكومار"، الباحث الرئيسي في الدراسة، أن النتائج الجديدة تُعد خطوة جوهرية نحو "الطب الشخصي المبني على النوع"، مؤكدًا أن فهم هذه الفروقات يُمكن أن يُحدث ثورة في طريقة الوقاية والعلاج.
وأضاف: "خلايا T التنظيمية تتحكم في استجابة لجهاز المناعية، وتلعب دورًا بالغ الأهمية في تخفيف الالتهاب وتنظيم التفاعل مع مسببات الأمراض داخل الأنسجة. والآن، نعرف أن وظيفتها لا تتطابق بين الجنسين."
منظور علاجي جديد: نحو تطوير أدوية "حسب النوع"
يرى الخبراء أن هذه النتائج تُمهّد الطريق نحو تصميم علاجات تُراعي الخصائص البيولوجية لكل من الرجل والمرأة. وهذا يُعد توجهًا جديدًا في عالم الطب الحديث، حيث بدأت بعض الشركات بالفعل في اختبار علاجات يتم تعديلها بحسب التركيب الجيني والجنس البيولوجي للمريض.
ففي المستقبل القريب، قد نشهد:
- أدوية موجهة للنساء تعزز من دور خلايا T التنظيمية لمواجهة أمراض المناعة الذاتية.
- علاجات مخصصة للرجال توازن وظائف هذه الخلايا في الأنسجة الدهنية للحد من الالتهابات وتحسين التمثيل الغذائي.
- نماذج تشخيص تعتمد على المؤشرات المناعية المرتبطة بالجنس لتحديد مدى احتمالية الإصابة بأمراض مزمنة معينة.
دلالات سريرية عميقة: هل نُعيد تعريف الطب الوقائي؟
تُشير هذه النتائج إلى ضرورة إعادة تقييم الطرق المتبعة في الطب الوقائي اليوم. فعلى سبيل المثال، برامج الفحص المبكر قد تحتاج إلى التخصيص بناءً على النوع البيولوجي، حيث يمكن للمرأة أن تُظهر مؤشرات مبكرة مختلفة عن الرجل، حتى وإن كان المرض نفسه.
كما قد تؤدي هذه النتائج إلى تحسين فعالية اللقاحات والعلاجات المناعية، التي تُظهر أحيانًا نتائج متفاوتة بين الجنسين، دون تفسير واضح حتى اليوم.
فصل جديد في الطب.. عنوانه "العدالة البيولوجية"
إن ما تُقدّمه هذه الدراسة من معطيات ليس مجرد اكتشاف علمي، بل هو دعوة صريحة لتغيير الطريقة التي نتعامل بها مع الأمراض من جذورها.
لقد أثبت العلم اليوم أن النوع البيولوجي ليس مجرد فارق في الشكل أو الوظيفة الإنجابية، بل هو أحد المفاتيح الأساسية لفهم الصحة والمرض.
وفي ظل هذه المعطيات، ربما آن الأوان لأن يبدأ الأطباء والباحثون في طرح سؤال جديد عند تشخيص أي حالة مرضية:
هل هذه امرأة أم رجل؟
فالإجابة على هذا السؤال قد تُحدد نوع العلاج، وفعاليته، ونتيجته على المدى البعيد