لم تكن زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى مصر مجرد محطة دبلوماسية تقليدية تدرج في أجندة العلاقات الثنائية، بل جاءت في توقيت بالغ الحساسية، في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي وتحديدا ما يتصل بالقضية الفلسطينية وتبعات العدوان المستمر على غزة وجاءت الزيارة لتؤكد من جديد أن القاهرة لا تزال هي المحور، وهي المعادلة، وهي الرؤية التي يستند إليها المجتمع الدولي في سعيه نحو الحلول العادلة والشاملة.
ماكرون جاء ليسمع ويتشارك
إن ماكرون لم يأت إلى القاهرة بحثا عن موقف مصري، فالموقف المصري واضح، ثابت، وراسخ بل جاء ليسمع، وليتشارك، وليؤكد أن فرنسا – ومعها أوروبا – تدرك أن لا حل ولا استقرار في الشرق الأوسط دون مصر، ودون العودة إلى طاولة السياسة التي لطالما دعت إليها القاهرة منذ اندلاع العدوان.
وفي كل أزمة تعصف بالمنطقة، تثبت مصر أنها طرف لا يمكن تجاوزه و منذ اندلاع العمليات العسكرية في غزة، قادت القاهرة الجهود السياسية والدبلوماسية والإنسانية لوقف نزيف الدم الفلسطيني، وفتح معبر رفح لتدفق المساعدات، بل وتحملت وحدها العبء الأكبر في احتواء آثار العدوان، سياسيا وإنسانيا وجاءت زيارة ماكرون لتؤكد أن العالم بات يرى بوضوح من يقود المعركة من أجل السلام ومن يقف صامتا فالرئيس الفرنسي، الذي ينتمي لدولة عريقة في دعم قيم العدالة وحقوق الإنسان، لم يكن ليأتي إلى القاهرة لالتقاط الصور، بل جاء لإعادة التوازن إلى خطاب المجتمع الدولي الذي بدأ في بعض الأحيان يبدو عاجزا أو متواطئا.
وضوح الموقف المصري
وما لفت الأنظار في هذه الزيارة هو الطابع المتكافئ الذي اتسمت به المحادثات بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس ماكرون و كان هناك وضوح مصري في الموقف، وجرأة في الطرح، وحرص على الدفاع عن الحقوق الفلسطينية في وجه آلة القتل والدمار، وفي المقابل كان هناك إنصات فرنسي، واحترام للدور المصري، واستعداد لبناء مواقف مشتركة تحفظ ما تبقى من إنسانية في المشهد الإقليمي.
ولقد أدارت مصر الملف الفلسطيني بعقل الدولة، و بمنطق التوازن، ولم تسقط في فخ المزايدات أو الخطابات العاطفية، وهو ما جعلها تحظى بثقة كل الأطراف الدولية، بما فيها فرنسا التي رأت في القاهرة شريكا حقيقيا، لا تابعا ولا طرفا منحازا.
إشارات سياسية
كما لا يمكن إغفال ما تحمله هذه الزيارة من إشارات سياسية قوية، سواء لداخل مصر أو للعالم فمن جهة، تؤكد الزيارة أن الموقف المصري في القضية الفلسطينية بات يحظى بدعم دولي متزايد، ليس فقط على مستوى الأقوال بل الأفعال، وهو ما قد يشكل ضغطا حقيقيا على الاحتلال لوقف عدوانه والجلوس على طاولة المفاوضات ومن جهة أخرى، تعزز الزيارة من قدرة القاهرة على توسيع دائرة تحالفاتها الدولية، في وقت تحتاج فيه المنطقة إلى جهود متضافرة، تتجاوز منطق الصراع إلى منطق الشراكة في بناء شرق أوسط جديد، يقوم على الاستقرار والتعاون لا الصدام والدمار.
وما خرجت به المباحثات بين الرئيسين من توافق على ضرورة وقف إطلاق النار، وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية، ورفض استهداف المدنيين، ليس سوى خطوة أولى نحو رؤية أوسع يتبناها البلدان للسلام الشامل والعادل ففرنسا، كعضو دائم في مجلس الأمن، ومصر، بثقلها الإقليمي والدولي، يمكن أن تشكلا معا محور ضغط فعال لإعادة إحياء عملية السلام، على أساس حل الدولتين، ووقف سياسات الاستيطان والتهجير ولقد كانت مصر – ولا تزال – تنادي بأن الحل السياسي هو السبيل الوحيد لإنهاء الصراع، بينما يصر البعض على اختبار الحلول العسكرية رغم فشلها المتكرر واليوم، ومع انضمام أصوات مؤثرة مثل فرنسا، يبدو أن هذه الرؤية المصرية بدأت تجد آذانا صاغية، وإرادات داعمة.
مصر تملك القرار
ربما الرسالة الأهم التي خرجت من زيارة ماكرون إلى مصر، هي أن الدولة المصرية لا تزال تملك القرار، وتملك التأثير فهي لم تقف موقف المتفرج، بل بادرت، وطرحت، وتحركت، وواجهت ضغوطا وتحديات، لكنها لم تتخل عن دورها ولا عن التزاماتها تجاه أشقائها الفلسطينيين وفي لحظة إقليمية فارقة، حين التبست المواقف وتشظت الرؤى، وقفت مصر شامخة، حاسمة، حاملة راية السلام والعدالة، ومؤكدة أن القضية الفلسطينية ليست ورقة تفاوض بل قضية مصير، وأن الأمن القومي المصري لا ينفصل عن أمن المنطقة بأسرها.
إن استمرار مثل هذا الدعم الدولي للموقف المصري، سواء من فرنسا أو غيرها من القوى العالمية، يعزز من فرص الحل العادل، ويضع حدا لمعاناة الشعب الفلسطيني، ويمهد الطريق نحو شرق أوسط أكثر إنسانية واستقرارا ومصر، التي خبرت طريق السلام وخاضت معاركه بكرامة، لن تتخلى عن دورها، لأنها ببساطة تعرف قدرها وتدرك مسؤوليتها