دراسة علمية: لا داعي لتقليل شرب الماء لدى مرضى قصور القلب

منذ عقود، ظلّ مرضى قصور القلب حول العالم يخضعون لنصيحة طبية لا تقبل الجدل: "قلّل من شرب الماء قدر الإمكان"، حيث كان يُطلب من هؤلاء المرضى ألا يتجاوز استهلاكهم اليومي من السوائل لترًا ونصف لتر فقط.
هذه التوصية، التي كانت تُعد ركنًا أساسيًا في بروتوكولات العلاج في أوروبا والولايات المتحدة، كان الهدف منها تخفيف العبء عن القلب ومنع تراكم السوائل في الجسم، خصوصًا في الرئتين والأطراف.
لكن اليوم، يحمل العلم رسالة مغايرة، وربما أكثر رحمة: لا يوجد ما يُثبت علميًا أن تقليل السوائل يُحسن حالة مرضى قصور القلب، بل إن الحرمان من الماء قد يكون مرهقًا بلا داعٍ.
نتائج مثيرة من دراسة حديثة
في دراسة عرضها باحثون خلال الاجتماع السنوي للكلية الأميركية لأمراض القلب، فاجأت النتائج الأوساط الطبية، حيث أظهرت أن تقليل شرب السوائل لا يؤدي إلى تحسن في حالة مرضى قصور القلب مقارنة بمن يشربون دون قيود.
الدراسة شملت 504 مريضًا يعانون من قصور خفيف إلى متوسط في القلب، وتم تقسيمهم إلى مجموعتين: مجموعة خضعت لتقييد السوائل إلى حدود 1.5 لتر يوميًا، وأخرى لم يتم فرض أي قيود عليها.
وبعد ثلاثة أشهر من المراقبة الدقيقة، تبيّن أن الفروق بين المجموعتين من حيث الأعراض الصحية، كمعدل التورم وضيق التنفس واحتباس السوائل، كانت شبه معدومة. بل إن بعض المشاركين ضمن المجموعة التي التزمت بتقليل شرب السوائل، أبلغوا عن شعورهم بالعطش والتعب وعدم الراحة النفسية.
مجلة "نيتشر ميديسن" توثق النتائج
تم نشر نتائج الدراسة في المجلة الطبية الشهيرة "نيتشر ميدسين"، حيث تم التأكيد على أن تقييد السوائل لم يُحدث فارقًا إحصائيًا في السلامة أو التحسن العام.
الدكتور رولاند فان كيميناد، الباحث الرئيسي من مركز جامعة رادبود الطبي في نايميخن، هولندا، قال بوضوح:
"ما خلصنا إليه هو أن المرضى المصابين بحالة مستقرة من قصور القلب لا يحتاجون لتقييد استهلاكهم للسوائل."
وبحسب الفريق البحثي، فإن المرضى الذين لم يلتزموا بالحدّ من الماء أظهروا ميلًا طفيفًا نحو التحسن، وإن لم يكن هذا الفارق كبيرًا بما يكفي ليُعتبر "دلالة إحصائية"، لكنه يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول جودة حياة المرضى ومدى الحاجة الحقيقية لفرض قيود شاقة عليهم.
هل ستتغير التوصيات العالمية قريبًا؟
يُعد هذا الاكتشاف العلمي خطوة جريئة نحو إعادة النظر في أسس بعض التوصيات العلاجية التقليدية. إذ لطالما تم الربط بين شرب الماء واحتباس السوائل في الجسم، لكن الدراسة تؤكد أن الأمر ليس بهذه البساطة، وأن الجسد البشري أكثر تعقيدًا، ويجب أن تُراعى حالته الفردية.
رغم ذلك، شدد الباحثون على أن نتائج الدراسة لا تعني أن كل مرضى قصور القلب يمكنهم شرب الماء بحرية مطلقة. فهناك حالات شديدة تتطلب تدخلاً دقيقًا ومراقبة صارمة لمستوى السوائل، خاصة إذا كان هناك فشل كلوي أو ارتفاع في ضغط الدم.
ماذا يعني هذا للمريض العادي؟
بالنسبة للمريض، فإن أهم ما يمكن استخلاصه من هذه الدراسة هو أن الشعور بالعطش ليس ضرورة علاجية، وأن التواصل المستمر مع الطبيب هو السبيل الأفضل لتحديد الكمية المناسبة من السوائل.
وقد تكون هذه الدراسة أيضًا دعوة للأطباء لإعادة تقييم التوصيات "الآلية" التي يتم تطبيقها على كل المرضى دون مراعاة لخصوصية كل حالة. فربما يكون هناك فارق كبير بين التوصيات الطبية التقليدية، وبين ما يكشفه العلم الحديث من حقائق أكثر توازنًا وإنسانية.
الماء ليس عدوًا.. بل قد يكون صديقًا مدفونًا تحت وهم الطبيعة الطبية الصارمة
تفتح هذه الدراسة بابًا واسعًا أمام الطب ليُعيد النظر في واحدة من أقدم توصياته لمرضى القلب، ويُجدد سعيه نحو رعاية أكثر دقة ومرونة، تُراعي الإنسان أولًا، وتُعيد ترتيب أولويات العناية بصحته وحياته اليومية.
ويبقى السؤال: هل نشهد قريبًا تحديثًا رسميًا لتوصيات الجمعيات الطبية حول العالم بشأن شرب السوائل لمرضى قصور القلب؟ ربما، لكن المؤكد أن العلم لا يتوقف عن إعادة اكتشاف نفسه.