عاجل

تتسع الهوة يوماً بعد يوم بين واقع مأساوي يتفاقم وبين نظام قانوني دولي عاجز عن مجاراته، واقع يدفع ملايين البشر إلى هجرة قسرية لم يختروها، لا بسبب حرب أو اضطهاد، بل بسبب تحولات مناخية تهدد وجودهم ذاته إنهم النازحون بسبب تغير المناخ، أولئك الذين تغمر مياه البحر جزرهم، أو تجفف الجفاف أراضيهم، أو تدمر الأعاصير منازلهم، فيضطرون إلى الرحيل عن أرض الأجداد بحثاً عن ملاذ آمن لكنهم يجدون أنفسهم في فراغ قانوني غريب، فالقانون الدولي يعترف بلاجئي الحرب والاضطهاد، لكنه يتجاهل إلى حد كبير لاجئي المناخ، وكأن معاناتهم أقل شرعية أو إلحاحاً.

الصورة مأساوية بشكل صادم، فلننظر إلى سكان جزر المحيط الهادئ الذين تبتلعهم المياه شيئاً فشيئاً، أو إلى المزارعين في الساحل الأفريقي الذين تحولت أراضيهم الخصبة إلى صحارى جرداء، أو إلى سكان بنغلاديش الذين تدمر الفيضانات المتكررة قراهم مرة تلو الأخرى هؤلاء ليسوا مهاجرين اختياريين يبحثون عن فرص أفضل، بل هم نازحون قسراً بسبب كوارث بيئية لم يكونوا سبباً فيها، لكنهم يدفعون ثمنها الأغلى المشكلة أن القانون الدولي الحالي لم يتصور هذه الفئة الجديدة من النازحين عندما وضعت اتفاقية اللاجئين عام 1951، فكانت تركيزها على الاضطهاد القائم على العرق أو الدين أو الجنسية أو الرأي السياسي، لكنها أغفلت تماماً الاضطهاد البيئي الذي قد يكون أقسى وأكثر ديمومة.

التحدي القانوني الأكبر يتمثل في تعريف "لاجئ المناخ"، فاتفاقية اللاجئين تشترط أن يكون الفرد مضطهداً في وطنه، لكن كيف نثبت "اضطهاد" المناخ؟ هل يمكن مقاضاة الطبيعة أو الدول الصناعية الكبرى المسببة للانبعاثات؟ الأكثر تعقيداً أن تغير المناخ يتحرك ببطء في كثير من الأحيان، فهو لا يأتي كحدث مفاجئ كالحرب، بل كعملية تراكمية تدفع الناس تدريجياً إلى حافة الهاوية هذا البطء يجعل من الصعب تحديد اللحظة التي يصبح فيها الشخص "لاجئاً"، ويصعب عملية المطالبة بالحماية الدولية.

المعضلة الأخرى تكمن في المسؤولية، فالنازحون بسبب المناخ غالباً ما يكونون من أفقر دول العالم وأقلها مساهمة في انبعاثات الكربون، بينما الدول الغنية الصناعية التي تتحمل المسؤولية التاريخية عن تغير المناخ هي الأقل استعداداً لتحمل تبعات هجرة المناخ إنها مفارقة أخلاقية صارخة المذنبون يرفضون تعويض الضحايا، والضحايا يدفعون ثمن جريمة لم يرتكبوها.

النظام الحالي يحاول التكيف ببطء مع هذا الواقع الجديد، فالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بدأت تتحدث عن "حماية مكملة" للنازحين بسبب الكوارث البيئية، وبعض الدول بدأت تمنح تأشيرات إنسانية مؤقتة في أعقاب الكوارث الطبيعية الكبرى، وهناك مبادرات إقليمية كمبادرة "إطار حماية نانس" في أفريقيا لكن هذه الجهود تبقى مجرد مسكنات مؤقتة لا تعالج الجذور الهيكلية للمشكلة.

الأمل قد يكمن في تطوير إطار قانوني جديد خاص بلاجئي المناخ، قد يأخذ شكل بروتوكول جديد ملحق باتفاقية اللاجئين، أو اتفاقية دولية مستقلة، أو مبادئ توجيهية عالمية لكن العقبات السياسية هائلة، فالدول المستقبلة المحتملة تخشى فتح الباب أمام تدفقات هائلة من المهاجرين البيئيين، خاصة في ظل تنامي المشاعر المعادية للهجرة في الكثير من المجتمعات.

 

 

الوقت ليس في صالحنا، فالتقديرات تشير إلى أن تغير المناخ قد يدفع ما بين 200 مليون إلى مليار شخص إلى النزوح بحلول منتصف القرن، وهو رقم مرعب سيهز استقرار الكثير من المناطق في العالم إذا لم يستعد العالم لهذا التحدي بشكل جدي ومنظم، فسنشهد موجات هجرة غير مسبوقة ستؤدي إلى صراعات ونزاعات لا حصر لها.

الحل يحتاج إلى رؤية شاملة تجمع بين منع أسباب تغير المناخ من خلال خفض الانبعاثات، ومساعدة المجتمعات الأكثر عرضة على التكيف مع آثاره، وإنشاء آليات حماية قانونية للنازحين قسراً بسببها هذا يتطلب تعاوناً دولياً غير مسبوق، وإرادة سياسية شجاعة، واستثمارات ضخمة في التكيف المناخي.

النازحون بسبب المناخ ليسوا مجرد إحصائية أو ظاهرة عابرة، بل هم وجه من وجوه الظلم المناخي الذي يهدد بالسير قدم النسيج الاجتماعي العالمي  حمايتهم ليست مجرد واجب إنساني، بل هي ضرورة أمنية واستراتيجية لاستقرار العالم القانون الدولي الذي يتخلف عن حماية هؤلاء البشر يكون قد فشل في تحقيق غايته الأساسية حماية الضعفاء من قسوة الظروف التي لا سيطرة لهم عليها الفجوة بين الواقع والقانون يجب أن تُسد، قبل أن تتحول إلى هاوية تبتلع المزيد من الأرواح البريئة.

تم نسخ الرابط