ضحايا بلا صوت.. كيف تحولت رؤية الأطفال إلى معاناة نفسية؟ (تقرير)
تظل أزمة الرؤية في مصر إحدى أهم القضايا القديمة والمتكررة في قانون الأحوال الشخصية، حيث يعاني الأطفال من تبعاتها النفسية والاجتماعية بشكل مستمر، فبينما يشتد الخلاف بين الأب والأم على مواعيد ومكان رؤية الطفل، يجد الصغار أنفسهم رهينة لمناوشات الوالدين، ما يؤدي إلى شعور بالحرمان العاطفي وانعدام الأمان النفسي.
أزمة الرؤية في مصر
ومع ضعف آليات التطبيق القانوني وتعدد التفسيرات، يجد الكثير من الآباء أنفسهم محرومين من حقهم الطبيعي في رؤية أبنائهم، بينما يواجه الأطفال ضغوطاً عاطفية كبيرة نتيجة التعنت أو التلاعب النفسي من قبل أحد الوالدين.

وتكشف هذه الأزمة عن ثغرات كبيرة في قانون الأحوال الشخصية، وتعكس الحاجة الماسة إلى مراجعة تشريعية وتوعية مجتمعية تضمن حقوق الأطفال وتوازن العلاقة بين الوالدين، وخاصة مع تكرر فصولها يوميًا داخل مراكز الشباب ودور الرعاية وأمام أقسام الشرطة والمحاكم، بينما يظل الأطفال هم الطرف الأضعف والأكثر تضررًا.
فبين نصوص قانونية جامدة، وخلافات أسرية محتدمة، يتحول حق الطفل في التواصل الطبيعي مع والديه إلى ساعات محدودة، تُمارس في أماكن غير إنسانية، وتحت أجواء مشحونة بالصراع والضغط النفسي، وفي التقرير التالي نرصد لكم أزمة رؤية الأطفال في مصر وكيف تأثر عليهم وما هي الحلول المقترحة من قبل الخبراء والمتخصصين:
الرؤية إلى ساحة تصفية حسابات بين زوجين منفصلين
في مشهد بات مألوفًا، يُجبر طفل في السادسة أو السابعة من عمره على لقاء أحد والديه داخل نادٍ أو مركز شباب، وسط غرباء، ولمدة لا تتجاوز ثلاث ساعات أسبوعيًا، دون خصوصية أو إحساس بالأمان، كما أن طفلا آخر يرفض الذهاب للرؤية بعدما جرى شحنه نفسيًا ضد الأب أو الأم، بينما يقف الطرف الثالث عاجزًا عن إثبات تعنت الحاضن أو تنفيذ حكم قضائي لا يراعي الواقع الإنساني. وفي حالات كثيرة، تتحول الرؤية إلى ساحة تصفية حسابات بين زوجين منفصلين، يُستخدم فيها الطفل كورقة ضغط، دون اعتبار لآثاره النفسية بعيدة المدى.
ملف الرؤية من أكثر الملفات الشائكة في قضايا الأحوال الشخصية
من جانبها قالت المحامية نهى الجندي، المستشارة القانونية، إن ملف الرؤية يُعد من أكثر الملفات الشائكة في قضايا الأحوال الشخصية، مؤكدة أن تعقيداته تظهر بوضوح من خلال واقع الممارسة العملية داخل المحاكم، فضلًا عن كونه أحد أبرز الملفات التي نوقشت داخل لجنة الحوار الوطني.
وأوضحت الجندي في تصريجات خاصة لـ نيوز رووم، أن قانون الرؤية الحالي يظلم كثيرًا من الآباء، مشيرة إلى أن حق الأب في رؤية أبنائه لا يمكن اختزاله في ثلاث ساعات أسبوعيًا داخل نادٍ رياضي أو مركز شباب، وبطريقة وصفتها بأنها «مهينة إنسانيًا وتربويًا»، ولا تحقق المصلحة الفضلى للطفل.

وأضافت أن بعض الأمهات، للأسف، يتعنتن في تنفيذ أحكام الرؤية، ويستخدمن الطفل كوسيلة ضغط على الأب، من خلال شحنه نفسيًا ضده، وتصوير الأب على أنه قاسٍ أو غير جدير برؤيته، وهو ما ينعكس سلبًا على نفسية الطفل ويجعله غير متقبل للقاء والده.
وأشارت المستشارة القانونية إلى أن هناك تحايلًا عمليًا على أحكام الرؤية، حيث تحضر بعض الحاضنات جلسة واحدة وتغيب عن جلستين، بما يمنع الأب من إثبات الامتناع المتتالي عن التنفيذ، خاصة أن القانون يشترط الغياب ثلاث مرات متتالية لإسقاط الحضانة، وهو شرط يصعب تحقيقه على أرض الواقع.
مطالب بضرورة إقرار «الاستضافة» بدلًا من الاكتفاء بالرؤية
وأكدت الجندي أنه خلال مناقشات لجنة الحوار الوطني، طالبت بضرورة إقرار «الاستضافة» بدلًا من الاكتفاء بالرؤية، بحيث يكون من حق الأب استضافة أبنائه ليوم أو يومين أو أسبوع كامل، باعتبار أن التربية مسؤولية مشتركة بين الأب والأم، وليست حكرًا على طرف واحد.
وشددت على أن استمرار الخلافات بين الوالدين يفرز أطفالًا غير أسوياء نفسيًا، وهو ما يتطلب تدخلًا تشريعيًا عاجلًا، يضع مصلحة الطفل فوق أي اعتبارات أخرى.
وطالبت المحامية نهى الجندي بتعديل قانون الرؤية وربطه بالالتزام بالنفقات، موضحة أن الأب الملتزم بالإنفاق يجب أن يُمنح حق الاستضافة الكاملة لأبنائه، مؤكدة أن القوامة لا تعني فقط الإنفاق المادي، ولا يجوز اختزال دور الأب في كونه مجرد «وسيلة دفع» دون دور تربوي حقيقي.
واختتمت تصريحاتها بالتأكيد على أن إصلاح منظومة الرؤية يمثل ضرورة مجتمعية، وليس مجرد تعديل قانوني، حفاظًا على تماسك الأسرة وحماية للأطفال من آثار النزاعات الأسرية.
أزمة الرؤية بين الأب والأم ليست مجرد مسألة قانونية
وفي ذات السياق أكد الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، أن أزمة الرؤية بين الأب والأم ليست مجرد مسألة قانونية، بل تتعلق بشكل كبير بالشخصيات وسلوكيات الطرفين، مؤكدًا أن الخلافات المستمرة بين الوالدين، حتى وإن كان كل منهما يدّعي أنها من أجل مصلحة الطفل، تتحول في الواقع إلى مكايدات تؤثر سلباً على نفسية الطفل.

وأوضح فرويز في تصريجات خاصة لـ نيوز رووم أن "الطفل عندما يشهد الصراعات بين والديه يشعر بنقص عاطفي ويفتقد الشعور بالأمان، وينعكس ذلك على ثقته بنفسه وسلوكه الاجتماعي، وقد تظهر عليه اضطرابات سلوكية وجنسية لاحقاً نتيجة هذا الفراغ العاطفي"، مشيرًا إلى أن المشكلة لا تكمن في القانون نفسه، بل في تعنت بعض الشخصيات، حيث قد تمنع الأم الأب من رؤية الطفل أو تحدد أماكن للزيارة بشكل يصعب على الطفل التكيف معها، أو يستخدم أحد الوالدين الطفل كوسيلة ضغط على الطرف الآخر.
الطفل هو الضحية الحقيقية لهذه الخلافات
وأكد استشاري الطب النفسي أن الطفل هو الضحية الحقيقية لهذه الخلافات، مشدداً على أن التوعية وحدها غير كافية، لأن الرسائل المباشرة لا تصل بشكل فعال إلى المجتمع، ويجب العمل بأساليب نفسية منهجية لتغيير المفاهيم الاجتماعية المتعلقة بالرؤية.
وأوضح أن "التغيير المجتمعي يحتاج إلى استراتيجيات مدروسة، من خلال مناهج تعليمية وبرامج إعلامية متخصصة، بحيث تصل الرسائل بشكل غير مباشر إلى الفئة المستهدفة، وتُحدث التأثير النفسي المطلوب دون أن يشعر المتلقي أنه يتلقى توجيهاً مباشراً".
وختم الدكتور فرويز بالقول: "إذا تم تطبيق هذه الأساليب بشكل صحيح، ستتحقق نتائج إيجابية كبيرة في تحسين بيئة الأطفال النفسية والاجتماعية، وتقليل تأثير الخلافات الزوجية على صحتهم النفسية".
أزمة الرؤية من أخطر الملفات والطفل هو الضحية الأولى
وقالت الدكتورة عبلة الهواري عضو مجلس النواب، إن أزمة الرؤية في قضايا الأحوال الشخصية تُعد من أخطر الأزمات التي يعاني منها الأطفال وأولياء الأمور، مؤكدًا أنها لا تتعلق فقط بنصوص قانونية، بل بآثار نفسية واجتماعية عميقة تمس الطفل في المقام الأول.

وأوضحت الهواري، في تصريجات خاصة لـ نيوز رووم، أن الرئيس عبد الفتاح السيسي وجّه بتشكيل لجنة قضائية بوزارة العدل لإعداد قانون موحد للأحوال الشخصية، وهي لجنة شُكّلت بالفعل، إلا أنها لم تنتهِ حتى الآن من أعمالها أو تقديم تصور نهائي، رغم مرور سنوات على تشكيلها.
وأضافت عضو مجلس النواب، أن ملف الرؤية تحديدًا يمثل إشكالية كبيرة، لأن رؤية الطفل في أماكن محايدة مثل مراكز الشباب أو الجمعيات الأهلية أو دور العبادة تُعد تجربة قاسية نفسيًا للطفل، مشددًا على أن الطفل لا يجب أن يشعر بأن لقاء أحد والديه يتم في “مكان رسمي” أو تحت رقابة، وكأنه طرف في نزاع، مشيرة إلى أن الحل الحقيقي لا يكمن فقط في تعديل تشريعي، بل في إعادة تنظيم العلاقة بين الأب والأم بعد الطلاق، “الطلاق شرعه الله، لكن ذنب الطفل إيه؟ ليه الأب أو الأم ما يروحش يشوف ابنه في بيته، في غرفته، وسط ألعابه، وهو قاعد مرتاح في بيئته الطبيعية؟”.
رؤية الطفل داخل منزله تساهم في نشأة طفل سوي نفسيًا
وأكدت الهواري، أن رؤية الطفل داخل منزله، أيًا كان الحاضن، تساهم في نشأة طفل سوي نفسيًا، وتقلل من مشاعر الغضب والعداء بين الوالدين، موضحًا أن الطفل يحتاج إلى علاقة طبيعية وآمنة مع كلا الطرفين بعيدًا عن الصراعات، مشددة على أن الأزمة لا يمكن اختزالها في نص قانوني فقط، بل تحتاج إلى توعية مجتمعية حقيقية، ودور فعال للمؤسسات المعنية بشؤون الطفل والأسرة، بما يضمن الحفاظ على الاستقرار النفسي للطفل.
وفيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية، أكدت الدكتورة عبله الهواري عضو مجلس النواب أن القانون الحالي يعود إلى عام 1920، أي منذ أكثر من 100 عام، ولم يعد يعكس واقع المجتمع الحالي، مشيرًا إلى وجود فجوات تشريعية كبيرة، خاصة فيما يتعلق بالخطوبة، العدول عنها، الشبكة، الهدايا، وزواج القاصرات، لافتة إلى أ: “قانون الأحوال الشخصية وقانون الإدارة المحلية هما أخطر قانونين مؤجلين منذ سنوات، ولا بد من تحريك المياه الراكدة فيهما، لأن الواقع الاجتماعي تغيّر بشكل كامل”.
وكشفت الهواري، أنه سبق وأن تقدم بمشروع قانون متكامل للأحوال الشخصية، تضمن أبوابًا جديدة ومواد معدلة، إلا أنه جرى تجميده انتظارًا لما ستنتهي إليه لجنة وزارة العدل، مؤكدًا أنه في حال استمرار التأخير، سيعيد تقديم مشروعه بعد تنقيحه بما يتناسب مع المتغيرات الحالية، مؤكدة على أن مصلحة الطفل يجب أن تكون الأساس في أي تشريع أو تعديل قادم، لأن استمرار الوضع الحالي يعني إنتاج أجيال تعاني نفسيًا واجتماعيًا، وهو ما ينعكس سلبًا على المجتمع بأكمله.