عاجل

تدور في الساحة الدولية لعبة قوى خطيرة تلجأ فيها الدول الكبرى إلى سلاح العقوبات الاقتصادية الأحادية كبديل للحروب التقليدية، سلاح يبدو نظيفاً في أوراق السياسة الخارجية لكنه بشع في واقع حياة الملايين من البشر الأبرياء إنه ذلك السلاح الذي ترفعه دولة أو تحالف محدود ضد دولة أخرى، متجاوزة مؤسسات الأمم المتحدة والقانون الدولي، مدعية سمو أهدافها ومشروعية غاياتها، بينما تتحول هذه العقوبات على الأرض إلى أداة عقاب جماعي تضرب كبار المسؤولين والصغار العزل دون تمييز هنا تقع المعضلة الأخلاقية والقانونية الكبرى كيف نوازن بين شرعية الضغط على أنظمة مستبدة وبين المعاناة الإنسانية التي تسببها هذه العقوبات للشعوب التي يفترض أن ننقذها؟

تنطلق الدول التي تفرض العقوبات الأحادية من مبررات تبدو نبيلة في الظاهر محاربة الإرهاب، منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، ردع انتهاكات حقوق الإنسان، استعادة الديمقراطية لكن وراء هذه الشعارات البراقة تختبئ أجندات جيوسياسية ومصالح اقتصادية وتطلعات هيمنة فالولايات المتحدة تفرض عقوبات على إيران باسم منعها من امتلاك سلاح نووي، وروسيا ترد بعقوبات مضادة، والصين ترفض الخضوع لعقوبات أمريكية، والاتحاد الأوروبي يحاول أن يجد مساراً وسطاً الجميع يلوح بالشرعية الدولية حين تخدم مصالحه، ويتجاوزها حين تعيقها وفي خضم هذه المعركة بين العمالقة، يُسحق المواطنون العاديون.

الضرر الإنساني للعقوبات الاقتصادية الأحادية يتجلى بوضوح مؤلم فالحظر على الأدوية والمستلزمات الطبية يؤدي إلى وفيات كان يمكن منعها تقييد استيراد المواد الغذائية يرفع الأسعار إلى عنان السماء ويدفع بالأسر إلى براثن الفقر المدقع تجميد الأصول يحبس ثروات الدول في البنوك الأجنبية بينما تتردى الخدمات الأساسية في الداخل العقوبات على قطاع الطاقة تدمر قدرة الدولة على توفير الكهرباء والتدفئة النتيجة المباشرة هي معاناة إنسانية واسعة النطاق، تتحول معها الحياة اليومية إلى كفاح مرير من أجل البقاء، لا لشيء إلا ان حكام يخالفون سياسات القوى العظمى.

الغريب في الأمر أن هذه العقوبات نادراً ما تحقق أهدافها السياسية المعلنة فالنظام في كوبا صمد لعقود تحت الحصار الأمريكي، والنظام الكوري الشمالي تكيف وعزز قبضته، والنظام الإيراني تصلب ولم يتراجع بل إن العقوبات غالباً ما تنتج تأثيراً معاكساً، فتوحد الشعب خلف حكومته تحت شعار مواجهة العدوان الخارجي، وتوفر للأنظمة المستبدة ذريعة جاهزة لتبرير إخفاقاتها الاقتصادية، وتحول الانتباه عن الانتهاكات الداخلية إلى التحدي الخارجي وهكذا تتحول العقوبات من أداة ضغط إلى هدية سياسية للأنظمة التي يفترض معاقبتها.

المشكلة القانونية تكمن في أن العقوبات الأحادية غالباً ما تتجاوز الشرعية الدولية، فهي تفرض خارج إطار مجلس الأمن الدولي، وبالتالي تفتقر إلى الشرعية التي تمنحها موافقة المجتمع الدولي الأوسع وهذا يخلق نظاماً عالمياً غير متوازن، حيث تملك الدول القوية الحق في معاقبة من تشاء، بينما تفتقر الدول الصغيرة لأي وسيلة دفاع إنه نظام يكرس هيمنة القوي على الضعيف تحت غطاء من الشعارات الأخلاقية.

الأكثر إثارة للقلق هو أن العقوبات الاقتصادية أصبحت سلاحاً يستخدم بسهولة متزايدة، حتى في الخلافات التجارية والسياسية البسيطة فقد تحولت من استثناء استثنائي إلى أداة اعتيادية في ترسانة السياسة الخارجية هذا الاستخدام المفرط يضعف فعالية العقوبات حين تكون ضرورية حقاً، ويساهم في زعزعة الاستقرار الاقتصادي العالمي، ويعطل سلاسل الإمداد الدولية، ويهدد النظام الاقتصادي العالمي برمته.

 

ثم يأتي السؤال الأخلاقي المحوري؟ هل من المقبول التسبب في معاناة الملايين من أجل تحقيق هدف سياسي؟ هل يمكن تبرير موت الأطفال بسبب نقص الأدوية بحجة الضغط على حكومتهم؟ أين يقع الخط الفاصل بين الضغط المشروع والعقاب الجماعي غير الأخلاقي؟ هذه الأسئلة تظل معلقة دون إجابات مرضية في أروقة صنع القرار الدولي.

في مواجهة هذا الإشكال، تبرز دعوات لإصلاح نظام العقوبات الدولية البعض يقترح عقوبات أكثر ذكاءً تستهدف النخب الحاكمة مباشرة دون التأثير على عامة الشعب آخرون يدعون إلى إشراك الأمم المتحدة بشكل أكبر لضمان شرعية العقوبات وفعاليتها وهناك من يطالب بآليات رصد مستقلة لتقييم الآثار الإنسانية للعقوبات وضمان عدم تجاوزها الحدود الأخلاقية.

الحقيقة المرة هي أن العقوبات الاقتصادية الأحادية تبقى سلاحاً غبياً يفتقر إلى الدقة، كمن يستخدم مطرقة ثقيلة لقتل بعوضة على جبين طفل قد تقتل البعوضة، لكنك ستشوه وجه الطفل إلى الأبد ربما حان الوقت للاعتراف بأن هذا السلاح، رغم مشروعية أهدافه أحياناً، يسبب ضرراً إنسانياً لا يمكن تبريره بأي حال العدالة التي تدمر الأبرياء ليست عدالة، والسلام الذي يقتل الأطفال ليس سلاماً

تم نسخ الرابط