عاجل

في عالم تتصادم فيه رؤوس الأموال مع تقلبات السياسة، تتحول الاستثمارات الأجنبية إلى رهان محفوف بالمخاطر، كمن يبني قصراً من الزجاج على أرض زلزالية فالمستثمر الأجنبي، ذلك المغامر الذي يحمل أمواله وخبراته عبر الحدود، يجد نفسه فجأة في قلب عاصفة سياسية لم يكن لها في حساباته، بينما الحكومات المضيفة تتأرجح بين الترحيب برأس المال الأجنبي والخوف من هيمنته، وبين الالتزام بالعهود الدولية والاستجابة لضغوط الشارع المحلي في هذه المعادلة المعقدة، تبرز معضلة حماية الاستثمارات الأجنبية كواحدة من أعقد تحديات العلاقات الاقتصادية الدولية، خاصة في الدول التي تعاني من هشاشة سياسية وتقلبات حادة في الأنظمة الحاكمة.
لنتخيل مستثمراً أوروبياً يضخ مئات الملايين في بناء مصنع للأدوية في دولة نامية، بعد سنوات من الدراسة وضمانات رسمية، ليأتي انتفاضة شعبية فيقرر النظام الجديد تأميم المصنع تحت دعاوى سيادية أو شعبوية أو لنفكر في شركة أمريكية تستثمر في قطاع الطاقة في منطقة مضطربة، فتفاجأ بتغيير القوانين بين ليلة وضحاها، أو بفرض ضرائب استثنائية، أو بمصادرة أصولها تحت حجج وطنية. هذه السيناريوهات ليست خيالاً، بل هي واقع مرير عاشته استثمارات كثيرة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط، حيث تحولت الأحلام الاستثمارية إلى كوابيس قانونية وخسائر فادحة.
عدم الاستقرار السياسي يأخذ أشكالاً متعددة ثورات تذهب بأنظمة وتأتي بأخرى، تغير القواعد بين عشية وضحاها، حروب أهلية تدمر البنى التحتية، تهديدات إرهابية تزيد تكاليف التأمين والأمن، تغيرات جذرية في السياسات الاقتصادية مع تغير الحكومات، صعود نزعات شعبوية معادية للأجانب، فساد ممنهج يهدد سلامة العقود كل هذه العوامل تخلق بيئة طاردة للاستثمار، وتجعل رأس المال الأجنبي حذراً متردداً، وكأنه يدخل أرض ألغام بقدمين من خشب.
الدول المضيفة تعيش بدورها معضلة حقيقية، فهي بحاجة ماسة إلى رأس المال الأجنبي والتقنية والخبرة التي يجلبها، لكنها تخشى من سيطرة الأجانب على قطاعات إستراتيجية، وتقلق من استنزاف الثروات الوطنية، وتخشى ردود فعل الشارع المحلي الذي قد يرى في هذه الاستثمارات شكلاً من أشكال الاستعمار الاقتصادي هذا الخوف المزدوج يخلق سياسات متذبذبة، فتارة تفتح الأبواب على مصراعيها، وتارة أخرى تشدد القيود إلى حد الاختناق، مما يزيد من حالة عدم اليقين التي تكرهها الأسواق.
في مواجهة هذه المخاطر، تطورت آليات دولية لحماية الاستثمارات، أبرزها اتفاقيات الاستثمار الثنائية التي تنظم العلاقة بين دولتين، وتوفر للمستثمر ضمانات ضد التمييز والمصادرة التعسفية كما ظهرت آليات تحكيم دولية تمكن المستثمر من مقاضاة الدولة المضيفة خارج نظامها القضائي المحلي، وهي آلية ثورية تمنح المستثمر الأجنبي سلاحاً قوياً في مواجهة تعسف الحكومات لكن هذه الآليات نفسها تواجه انتقادات حادة، فالدول النامية تشتكي من أنها تمس بسيادتها الوطنية، وأن محاكم التحكيم الدولية تميل لصالح المستثمرين الأقوياء، وأنها تقيد قدرة الحكومات على تنظيم اقتصادها لصالح شعوبها.
المستثمرون من جانبهم طوروا استراتيجيات للتكيف مع عدم الاستقرار السياسي، منها تنويع الاستثمارات جغرافياً، وشراء تأمينات سياسية تغطي مخاطر المصادرة والعنف السياسي، وإبرام عقود مفصلة تحاول توقع كل السيناريوهات الممكنة، وعقد شراكات مع مستثمرين محليين يخففون من حدة العداء للأجانب لكن كل هذه الإجراءات تزيد التكاليف وتعقد العمليات، وتجعل الاستثمار في الدول غير المستقبة سياسياً استثماراً للمجازفين فقط.
التحدي الأكبر يتمثل في الدول الهشة التي تعاني من صراعات داخلية مزمنة، حيث تتداخل الخطوط بين القانون والا قانون، وبين الدولة والميليشيات، وبين الاستثمار والنهب في هذه البيئات، تتحول حماية الاستثمارات من مسألة قانونية


إلى معضلة أمنية وجودية فكيف تحافظ على مصنع في منطقة تسيطر عليها جماعات مسلحة؟ وكيف تحصل على حكم قضائي عادل في دولة انهار جهازها القضائي؟
المستقبل يحمل مزيداً من التعقيد مع تزايد الاضطرابات السياسية في الكثير من العالم، وتصاعد النزعات الوطنية والشعبوية، وتأثير تغير المناخ والأزمات الصحية على الاستقرار السياسي في هذا المشهد المتقلب، تبرز الحاجة إلى نموذج جديد لحماية الاستثمارات، نموذج أكثر توازناً يحمي حقوق المستثمر دون أن يمس بسيادة الدول، ويدعم التنمية دون أن يهدد الاستقرار الاجتماعي.
في الختام، يمكن القول إن حماية الاستثمارات الأجنبية في ظل عدم الاستقرار السياسي ليست مجرد قضية تقنية أو قانونية، بل هي اختبار لمدى نضج النظام الاقتصادي الدولي وقدرته على خلق توازن بين مصالح متضاربة الاستثمار يحتاج إلى الاستقرار، والاستقرار يحتاج إلى الاستثمار، وهذه الحلقة المفرغة لا يمكن كسرها إلا ببناء ثقة متبادلة تقوم على الشفافية والاحترام والمنفعة المشتركة بدون هذه الثقة، سيظل رأس المال يحلق مثل طائر خائف، يبحث عن مكان آمن في سماء مليئة بالعواصف

تم نسخ الرابط