عاجل

لم يكن قرار ولاية فلوريدا الأمريكية بتصنيف جماعة الإخوان ومجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية «كير» كمنظمتين إرهابيتين أجنبية مجرد خطوة تشريعية عابرة، بل يمثل لحظة فاصلة في مسار طويل كانت الولايات المتحدة تتعامل فيه مع الجماعة باعتبارها أداة نفوذ سياسي في الشرق الأوسط و اليوم يتغير كل شيء، حيث تشهد الولايات المتحدة الأمريكية إعادة تقييم عميقة لأدوار التنظيمات ذات الطابع الديني السياسي، وعلى رأسها الإخوان الذين ظلوا لسنوات يتحركون داخل الولايات المتحدة تحت مظلة العمل المدني والحقوقي ، وجاء قرار فلوريدا، الذي سبقته إليه ولاية تكساس، ليعبر عن تحول في المزاج السياسي والثقافي داخل المجتمع الأمريكي، ويمهد لمرحلة جديدة قد تؤثر على وضع الإخوان في الغرب كله.


خلال السنوات الماضية تراكمت عشرات الدراسات والتقارير الاستخباراتية والإعلامية التي تناولت نشاط الإخوان داخل الولايات المتحدة، وكانت جميعها تشير إلى أن الجماعة استطاعت بناء شبكة واسعة من الواجهات والمراكز والجمعيات التي تعمل تحت عناوين تبدو مدنية، لكنها في واقع الأمر تشترك في بنية فكرية واحدة، وتتحرك ضمن نطاق المشروع الأيديولوجي ذاته وفي قلب هذه الشبكات برزت «كير» باعتبارها الواجهة الأكثر نفوذا وقدرة على التواصل مع المؤسسات الأمريكية، حيث لعبت دور الذراع المدنية للجماعة، مقدمة خطابا مزدوجا؛ خطاب خارجي يرفع شعارات الحقوق والمواطنة، وخطاب داخلي يعيد إنتاج السرديات الأيديولوجية ذاتها التي تأسست عليها الجماعة منذ عقود.

هذا الازدواج لم يعد خافيا على صانع القرار الأمريكي فقد شهدت السنوات الأخيرة تصاعدا في التحذيرات داخل مراكز الأمن القومي ومؤسسات البحث من قدرة التنظيم على استغلال هامش الحرية الواسع في الولايات المتحدة لبناء نفوذ يصعب رصده أو الحد منه ومع صعود التيارات المحافظة وتعاظم القلق من ما يسمى “الأمن القومي الثقافي”، و بدأ الاهتمام الأمريكي ينتقل من مواجهة الإرهاب المباشر إلى تفكيك البنى الفكرية والتنظيمية التي تعتمد على النفاذ الهادئ داخل المجتمعات، حتى لو لم تكن تمارس العنف بشكل مباشر و هنا بالتحديد برز الإخوان باعتبارهم نموذجا لتنظيم سياسي ديني يمتلك قدرة عالية على صناعة خطاب تعبوي مؤثر، قد يبدو سلميا في ظاهره لكنه يحمل في عمقه مشروعاً سياسيا مغلقا.

ويحسب لولاية فلوريدا أنها كانت أكثر وضوحا في التعبير عن هذا التحول، حين اعتبرت الجماعة و كير خطرا على الأمن القومي الأمريكي من زاوية قدرتهم على تشكيل وعي الجاليات الإسلامية بطريقة تتعارض مع قيم الدولة الأمريكية نفسها، هذا الاعتراف يحمل دلالات مهمة، لأن الولايات المتحدة نادرا ما توجه اتهامات من هذا النوع لتنظيمات غير مسلحة لكنه يكشف أن الخطر لم يعد مرتبطا بالسلاح، بل بالأفكار، وأن الولايات أصبحت أكثر حساسية تجاه النشاط الأيديولوجي الذي يخلق مجتمعات موازية أو يبني ولاءات تتجاوز الدولة.

ولا يمكن فهم هذا التحول بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي فبعد سقوط مشروع الجماعة في عدد من الدول العربية منذ عام 2013، بدأت واشنطن تدرك—وإن متأخرا—أن تنظيم الإخوان لم يعد مؤهلا ليكون شريكا سياسيا آمنا أو قناة تواصل داخل الشرق الأوسط، لقد كانت السنوات الماضية كاشفة؛ الخطاب الذي حاولت الجماعة تقديمه للغرب باعتبارها “قوة إصلاحية” تهاوى أمام التجربة العملية التي أثبتت أن التنظيم يتحرك وفق رؤية مغلقة لا تؤمن بالتعددية السياسية إلا باعتبارها وسيلة للوصول إلى السلطة ومع كل إخفاق سياسي أو أزمات أمنية ارتبطت بها الجماعة في المنطقة، تزايدت القناعة الأمريكية بأن المراهنة على الإخوان كانت خطأ سياسيا فادحا.

ومن زاوية أخرى، فإن قراري فلوريدا وتكساس يشيران إلى أن الولايات المتحدة، على مستوى حكومات الولايات، سبقت الإدارة الفيدرالية في إدراك طبيعة التهديد وهذا يحدث كثيرا في القضايا ذات الجدل السياسي الواسع داخل واشنطن فعندما تبدأ ولايات كبيرة ذات ثقل انتخابي و تشريعي في اتخاذ قرارات متزامنة، فإن ذلك يصنع ضغطا متراكما قد يدفع الكونجرس أو الإدارة الفيدرالية إلى مراجعة موقفها وإذا توسعت رقعة القرارات لتشمل ولايات أخرى، فليس من المستبعد أن نجد خلال السنوات المقبلة نقاشا فيدراليا حول إدراج الإخوان في قوائم الإرهاب على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية كلها ،و هذا السيناريو بالنسبة للجماعة هو الأخطر، لأنه سيجعل وجودها القانوني داخل أمريكا أكثر هشاشة من أي وقت مضى.

ورغم أن التنظيم يمتلك تاريخا طويلا في التكيف مع الأزمات وإعادة التموضع، فإن البيئة الأمريكية اليوم تغيرت بصورة تجعل فرص المناورة أضيق فالمزاج العام أصبح أكثر تشددا تجاه التنظيمات العابرة للحدود، والهامش الذي كانت تعمل فيه الجماعة عبر واجهات خيرية أو حقوقية أصبح مكشوفا، وتمويلها يخضع لرقابة غير مسبوقة، والقدرة على بناء نفوذ داخل الجاليات الإسلامية لم تعد كما كانت وفي ظل هذا السياق الجديد، يمكن القول إن الجماعة لم تعد تمتلك الدعم السياسي الذي طالما اعتمدت عليه داخل واشنطن، وأنها تدخل مرحلة فقدان الغطاء الدولي الذي شكل لعقود أحد أهم مصادر قوتها.

إن قرار فلوريدا ليس مجرد إعلان قانوني، بل يمثل إعلانا عن نهاية مرحلة وبداية أخرى مرحلة كانت فيها الجماعة تقدم باعتبارها تيارا سياسيا معتدلا يمكن إشراكه في عملية صنع القرار داخل المنطقة، ومرحلة جديدة تنظر فيها الولايات المتحدة إلى التنظيم باعتباره تهديدا ثقافيا وتنظيميا لا يقل خطورة عن التنظيمات العنيفة، حتى لو اختلفت أدواته ومع هذا التحول، يصبح من الواضح أن مشروع الإخوان في الغرب يترنح، وأن التنظيم يفقد أهم ساحاته التي كان يعول عليها لتسويق نفسه دوليا.

وبهذا المعنى، فإن ما جرى في فلوريدا وتكساس ليس سوى البداية، المشهد الأمريكي يتحرك، والإدراك السياسي يتغير، و الستار يسدل تدريجيا على ورقة لطالما وظفتها قوى دولية وإقليمية لتحقيق مصالحها واليوم تعود الولايات المتحدة لتعيد النظر في حساباتها، بينما تتلقى الجماعة واحدة من أقوى الضربات التي تعرضت لها في الغرب منذ تأسيسها، إنها لحظة سقوط ورقة، وبداية زمن جديد يعيد تعريف العلاقة بين الغرب وتنظيمات الإسلام السياسي بأكملها.

تم نسخ الرابط