ننشر نص خطبة الجمعة القادمة.. "التطرف ليس في التدين فقط"
حددت وزارة الأوقاف موضوع خطبة الجمعة القادمة بعنوان: "التطرف ليس في التدين فقط".
نص الخطبـة الأولى
الحمد لله رب العالمين، فطر الكون بعظمته، وأنزل الحق على أنبيائه ورسله، نحمده سبحانه على نعمة الإسلام، دين السماحة والسلام، الذي شرع لنا سبل الخير وأنار لنا دروب اليسر، ونسأله الهدى والرضا والعفاف والغنى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، صاحب الخلق العظيم، النبي المصطفى الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
التطرف ليس ظاهرة قاصرة على النصوص الدينية، أو محصورة في الزوايا الشرعية، بل هو انحراف سلوكي واقتتال فكري يظهر حيثما يختل ميزان العدل ويغيب سند الاعتدال. فالغلو حالة تنشأ حينما يصادر الفهم ويهمل العقل، فيظهر في أماكن العبادة، وملاعب الرياضة، والخلافات العائلية، والنعرات القبلية. والمتأمل يلحظ تشابها في الجذور وإن تباينت الألوان وتعددت المظاهر، والتعصب لفريق يحمل سمات التشنج لمذهب، وكلاهما مرض الذهن وعلة البصيرة التي تحول الاختلاف إلى خصام، والرأي المخالف إلى سم زعاف. فالآفة ليست في حكم منزّل، ولا رأي معتبر، بل في نفس لم تزن وعقلية لم توجه. وقد صدق الله القائل في محكم آياته: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾.
سادتي الكرام: ألم يكن منهج النبوة عنوانه: "خير الأمور أوسطها"؟ ألم يحذر الجناب المحمدي من الوقوع في مظاهر الغلو ودعاوى التعصب؟ لقد أضاءت تعاليم الإسلام بنورها الوضّاء، وحملت أخلاقا رصينة وآدابا متينة، وحذرت من مزالق التطرف بشتى طرقه وأصنافه. فجاءت نصوص الوحي صافية في دعوتها، محكمة في غايتها، تدعو إلى الوسطية منهجا والاعتدال سراجا. فالإسلام يرسخ فينا ميزانا دقيقا يحفظ للإنسان سكينته وتوازنه، ويجنب مغبة الاندفاع وعواقب الانقطاع، حتى نكون شهداء لله في الأرض على الحق واليقين لا على النزاع والتلوين. هذا المنهج القويم يتجلى في أبهى صوره، كما أشار إليه الحق سبحانه في وصف عباده: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتر وكان بين ذلك قواما﴾.
أيها النبلاء: إن الانتماء المحمود فطرة إنسانية أصيلة واعتزاز بالمحل والمنشأ والأصل، فاعتزاز المرء بقبيلته أو وطنه دون أن يقصي الآخر فعل محمود وغرض مقصود، ومتى تجاوز الحد يصير تعصبا أعمى أو حمية جاهلية مذمومة تقود إلى الشقاق والمفاصلة واستدعاء العصبة للنزاع والمغالبة، ليتحول بذلك من شعور طبيعي بالوحدة إلى داء مقيت يقطع أوصال الإيمان والمحبة، ويصرف عن الهدف الأسمى وهو التعارف والتكامل، ويستبدل ميزان التقوى والحق، الذي هو أساس التفاضل، بباطل الأحقاد ودواعي التفرقة. وقد كان هذا السلوك الانحرافي دعوة جاهلية بعناوين قبلية، استنكرها الجناب المعظم أشد الاستنكار وقال متسائلا: "بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟"
نص الخطبـة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
التطرف الرياضي بمظاهر الانفلات والعصبية المفرطة انحراف خطير عن سنن الاعتدال، يضع صاحبه في مواجهة مباشرة مع المحظورات الشرعية والآداب الأخلاقية والسلوكيات البغيضة، مثل السخرية المهينة والتنابز بالألقاب المشينة وإطلاق عبارات السب والشتم، وصولا إلى الاحتقار الذي يهدم أساس الأخوة والكرامة. ولا يقف الأمر عند الإيذاء اللفظي، بل قد ينجرف التعصب إلى ما هو أشد وأخطر من اشتباك بالأيدي واعتداء جسدي، لتخرج الرياضة من إطارها النبيل كوسيلة للتنافس الشريف والترفيه المباح وتصبح بؤرة للخصومة والصراع المذموم.
فالمؤمن الحق المستنير بتعاليم الوحي يدرك أن حفظ اللسان وصون الأعراض من أهم الثوابت التي لا يجوز المساس بها تحت أي ذريعة. فالرياضة في أصلها لا يمكن أن تكون مسوغًا للتعدي على حقوق الآخرين أو تجاوز ضوابط السلوك القويم. قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون﴾
أيها المكرمون: اغرسوا في عقول شباب الأمة أن روح الشريعة الإسلامية هي روح الألفة والوئام، فهي ترغّب دائمًا في كل ما يجمع القلوب ويقيم الروابط، وتغرس في النفوس معاني الألفة بدل البغضاء والخصام. الإسلام يقف موقف الرفض والتحذير من كل سلوك يثير العداوة أو يقطع وشائج العلاقات الاجتماعية، ويدعو إلى الاعتصام بحبل الوحدة ونبذ الفرقة. التنازع يبدد الطاقات ويضعف المجتمعات ويهدم قوتها. ومهما كانت محبة المرء للرياضة، يجب ألا تخرجه هذه المحبة عن حدود الشريعة وواجبات الأخلاق وضوابط السلوك. فالرياضة كاشف دقيق لمعدن الخلق الحقيقي الذي يظهر مدى التزام الإنسان بضوابط الاعتدال، وعلاج التعصب الرياضي يكمن في ضبط اللسان واحترام المنافس وتعميق الوعي بمقاصد الرياضة الأصيلة كأداة لبناء الجسد والروح، ليظل ميزان التفاضل هو التقوى والأخلاق الحسنة لا التعصب الأعمى والانتماءات الزائلة. قال تعالى: ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾

