عاجل

منذ أن أطلقت جماعة الإخوان المسلمين كيانها السياسي المنظم في مصر أوائل القرن العشرين، وهي تثير جدلاً لا ينتهي، ليس فقط على الساحة العربية بل على المسرح الدولي الأوسع غير أن العلاقة بين الجماعة والغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، ظلت دائماً علاقة إشكالية تتأرجح بين القبول الهادئ والرفض القاطع، بين التنسيق السري والمواجهة العلنية وقد شكلت السياسة الأمريكية، بقوة تأثيرها ونفوذها العالمي، محوراً أساسياً في تشكيل وتوجيه الموقف الدولي بكامله تجاه هذه الجماعة لفهم هذه الديناميكية المعقدة، يجب الغوص في ثنايا هذه العلاقة المتشابكة التي مرت بمراحل عدة، من مرحلة التوجس والحذر خلال الحرب الباردة، حيث نظرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى الجماعة بنظرة ريبة، خائفة من خطابها الإسلامي الذي قد يزعزع استقرار الحكومات العلمانية الموالية لواشنطن في المنطقة في تلك الحقبة، كان التعامل يغلب عليه الطابع الأمني والاستخباراتي أكثر من كونه تفاعلاً سياسياً علنياً.

مع بروز ظاهرة الجهاد العالمي وتصاعد هجمات تنظيم القاعدة، دخلت العلاقة في منعطف جديد أكثر خطورة رأت واشنطن في خطاب الإخوان، رغم اختلافه الجوهري عن التنظيمات المتطرفة، تربة خصبة قد تنتج التطرف، أو على الأقل تشكل إطاراً فكرياً يمكن أن يتحول تحت ظروف معينة هنا، بدأ يتشكل تحالف موضوعي غير معلن بين الإدارة الأمريكية وبعض الأنظمة العربية التي كانت تتصدر عداءها للإخوان، حيث وجد الطرفان في ظاهرة "الإسلام السياسي" عدواً مشتركاً يهدد المصالح الأمريكية من جهة ويزعزع استقرار تلك الأنظمة من جهة أخرى هذا التحالف لم يكن مكتوباً على الورق، بل تجلى في صورة دعم سياسي وعسكري واستخباراتي لتلك الأنظمة، بينما تغاضت واشنطن عن تجاوزاتها في مجال حقوق الإنسان تحت ذريعة محاربة الإرهاب هذه المرحلة شهدت تحولاً في الخطاب الأمريكي، وإن لم يصل إلى حد التصنيف الرسمي، بات فيه مصطلح "الإسلام السياسي" مقترناً في الإعلام والخطاب السياسي الأمريكي بالتهديد والأمن القومي.

ثم جاءت لحظة الربيع العربي كصاعقة غيرت كل المعادلات، لقد فاجأت انتفاضات الشعوب الجميع، فمع صعود الإخوان إلى سدة الحكم في مصر عبر صناديق الاقتراع، وجدت الإدارة الأمريكية، خاصة في عهد أوباما، نفسها في مأزق استراتيجي حاد من ناحية، كان صعود الإخوان يمثل اختباراً حقيقياً لشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي ترفعها الولايات المتحدة كيف ترفض مجموعة وصلت إلى الحكم عبر انتخابات نزيهة؟ هذا السؤال أربك السياسة الأمريكية ولكن من ناحية أخرى، كانت المخاوف التقليدية قائمة ماذا عن علاقة مصر بإسرائيل؟ ماذا عن استقرار قناة السويس؟ ماذا عن تحالف الإخوان مع قوى إقليمية معادية لواشنطن مثل إيران وحركة حماس؟ هذه الأسئلة جعلت دعم واشنطن للإخوان حذراَ ومشروطاً، بل يمكن القول إنه كان دعم "عدم رفض" أكثر من كونه دعم "قبول" لقد حاولت إدارة أوباما التعامل مع الواقع الجديد دون التخلي عن تحالفاتها الاستراتيجية التقليدية مع المؤسسة العسكرية في مصر.

لكن المرحلة الأكثر حسماً وتأثيراً في تشكيل الموقف الدولي كانت في عهد الرئيس دونالد ترامب. لقد مثلت قراراته نقطة تحول جوهرية، حيث انتقلت السياسة الأمريكية من منطق "المرونة التكتيكية" و"البراغماتية الحذرة" إلى منطق "المواجهة المعلنة" و"التصنيف الصريح" لم يكن قرار ترامب بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية مجرد إجراء شكلي، بل كان رسالة سياسية قوية ذات أبعاد متعددة على المستوى الداخلي الأمريكي، كان القرار محاولة لاستقطاب الناخبين المحافظين واليهود، وتنفيذاً لوعود حملته الانتخابية أما على المستوى الدولي، فكان أشبه بإطلاق رصاصة البداية في سباق دولي لمحاصرة الجماعة لقد أعطت واشنطن، بقوة نفوذها، "الشرعية" الدولية لكل

 

الأطراف التي كانت تحارب الإخوان، لم يعد الأمر مجرد صراع داخلي أو إقليمي، بل تحول إلى قضية تندرج في إطار الحرب العالمية على الإرهاب هذا التصنيف شجع حلفاء أمريكا في المنطقة، مثل السعودية والإمارات، على المضي قدماً في سياساتهم العدائية تجاه الإخوان وتجاه أي شكل من أشكال الإسلام السياسي، مع علمهم أن لديهم غطاءً أمريكياً كما وضع الدول الأوروبية في موقف حرج، فهي لم تتبع واشنطن في التصنيف الرسمي، لكن الضغوط الأمريكية والتحالفات الإقليمية دفعتها لتبني سياسات أكثر تشدداً في مراقبة أنشطة الجماعة ومؤيديها على أراضيها.

بالتالي، لم تكن السياسة الأمريكية مجرد رد فعل على تحركات الإخوان، بل كانت عاملاً فاعلاً ومؤثراً بشكل حاسم في صياغة البيئة الدولية المحيطة بالجماعة لقد ساهمت واشنطن، عبر أدواتها المختلفة من الدبلوماسية والضغط الاقتصادي والتعاون الاستخباراتي والتغيير في الخطاب الدولي، في خلق تحالف دولي وإقليمي غير مسبوق ضد الإخوان هذا التحالف، وإن لم يكن متماسكاً بالكامل، حيث لا تزال هناك فجوات في الموقف الأوروبي، ووجود داعمين إقليميين مثل تركيا وقطر، إلا أنه نجح في عزل الجماعة دولياً إلى حد كبير، وحاصرها مادياً وسياسياً، وحولها من لاعب سياسي له وجود على الأرض إلى جماعة منهكة تواجه اتهامات بالإرهاب من أقوى دولة في العالم.

الخلاصة هي أن الموقف الدولي من الإخوان المسلمين هو، إلى حد كبير، انعكاس لرؤية واشنطن وتوجهاتها فحين تتراجع واشنطن عن عدائها، قد تفتح نافذة أمل للجماعة، وحين تشدد الخناق، تذبل هذه النافذة إنها معادلة القوة والنفوذ التي تتحكم في مصير جماعة ظلت لعقود في قلب العاصفة

تم نسخ الرابط