في السنوات الأخيرة، لم تعد قضايا العنف ضد النساء وارتفاع نسب الطلاق مجرد مؤشرات اجتماعية عابرة، بل تحوّلت إلى ظاهرة تكشف عن أزمة أعمق تمسّ بنية الأسرة المصرية وتفاعلها مع الضغوط الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية. ورغم اتساع مساحة الوعي التي شجّعت الكثير من النساء على الإبلاغ وكسر الصمت، فإن الواقع يُظهر أن حجم الانتهاكات يتزايد، وأن البيوت تواجه مستويات غير مسبوقة من التوتر الذي ينعكس مباشرة على العلاقات الزوجية وعلى استقرار الأسرة.
تشير متابعات بحثية حديثة إلى ازدياد الإبلاغ عن مختلف أنواع العنف، خاصة النفسي واللفظي والاقتصادي، إضافة إلى انتشار الابتزاز الإلكتروني الذي بات يمثل جيلًا جديدًا من الإيذاء يستهدف الفتيات والشابات ليلًا نهارًا. ويرى مختصون أن جزءًا من هذا الارتفاع يعود إلى تحسن آليات التبليغ وجرأة الضحايا على طلب الدعم، لكن الجزء الآخر يُعد مؤشرًا على ازدياد الضغوط الأسرية وتراجع مهارات التواصل داخل البيت، ما يفتح الباب أمام العنف كوسيلة للتعبير عن الانفعال أو السيطرة.
في المقابل، يبرز العامل الاقتصادي كأحد أكثر المحركات تأثيرًا في تفاقم الأزمة. فارتفاع الأسعار، وتراجع القدرة الشرائية، وزيادة معدلات البطالة، كلها عوامل ترفع منسوب التوتر داخل الأسرة. كثير من الأزواج يجدون أنفسهم غير قادرين على تلبية الالتزامات اليومية، مما يدفع بعضهم إلى تفريغ الإحباط في صورة سلوكيات عنيفة. ولا تتوقف هذه الضغوط عند حد الخلافات اللفظية، بل تمتد في كثير من الأحيان إلى اعتداءات جسدية وانفجارات مفاجئة تتحول سريعًا إلى دوائر متكررة من العنف.
كما تشير تحليلات اجتماعية إلى أن بعض الموروثات الثقافية ما زالت تمنح المعتدي حماية ضمنية، وتحمّل الضحية مسؤولية الحفاظ على المنزل حتى لو كان ذلك على حساب سلامتها. هذا المناخ يخلق بيئة تُبرّر فيها بعض الأوساط السلوك العنيف، وتُقيّد حركة النساء في طلب الحماية أو الوصول إلى الجهات المختصة، مما يؤدي إلى استمرار الانتهاكات وتفاقمها.
وعلى الجانب الآخر، بات الطلاق ملفًا لا يقل خطورة عن العنف. الأرقام الأخيرة تُظهر ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الانفصال، خاصة بين الأزواج الشباب. ويربط الباحثون ذلك بتغير طبيعة العلاقات، وتراجع القدرة على تحمل الضغوط، وتوقعات غير واقعية حول الزواج. كثيرون يدخلون الحياة الزوجية دون استعداد نفسي أو اجتماعي، ودون امتلاك أدوات إدارة الخلاف. كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا بارزًا في تغذية الشعور بعدم الرضا، عبر المقارنات المستمرة، أو من خلال تسهيل تواصل غير مشروع أدى إلى تفكك العديد من العلاقات.
ومع بروز “الخيانة الإلكترونية” وازدياد الاعتماد على العالم الافتراضي، أصبحت الحدود بين الخصوصي والعلني أكثر هشاشة، ما جعل المشاكل الزوجية تتسرب إلى فضاءات عامة، وتتحول إلى مصدر ضغط يسرّع الانفصال. هذا إلى جانب اضطرابات الصحة النفسية التي لم تعد تُناقش بجدية داخل الأسرة رغم أنها أحد العوامل المركزية في تدهور العلاقات.
ويجمع الخبراء على أن الحلول لا تزال ممكنة لكنها تتطلب إرادة جماعية. فتعزيز الإرشاد الأسري، وتفعيل القوانين الخاصة بالعنف، وتحسين آليات التبليغ والحماية، إلى جانب إصلاحات اقتصادية تخفف الأعباء عن البيوت، كلها خطوات ضرورية لإعادة التوازن. كما يُعد الإعلام والتعليم والمجتمع المدني شركاء أساسيين في بناء ثقافة أسرية جديدة تقوم على الاحترام والتواصل والمسؤولية المشتركة.
وهكذا يبدو أن الطريق إلى استقرار الأسرة المصرية يبدأ من الاعتراف بأن ما يجري ليس مجرد موجة عابرة، بل أزمة عميقة تتطلب مواجهة صريحة، ورؤية شاملة تستهدف حماية النساء وصون البيوت واستعادة تماسك المجتمع.