عاجل

ومع تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، خرج جميع الساسة الأتراك الذين كان الكرسي المقدس يخاطبهم من المشهد السياسي، الأمر الذي دفع الفاتيكان إلى البحث عن قنوات جديدة تمكّنه من إقامة علاقات دبلوماسية مع الدولة الناشئة، بما يضمن للمسيحيين فيها حرية ممارسة شعائرهم. وتشير وثائق تلك المرحلة إلى محاولة جرت عام 1924 لتحقيق هذا الهدف، غير أن فرنسا، التي كانت تسعى للحفاظ على نفوذها التقليدي، تصدّرت المشهد مرة أخرى، وعملت على عرقلة أي تقارب بين الفاتيكان والجمهورية الجديدة، وفقاً لتقرير أعدّه مبعوث البابا في استانبول آنذاك.
إلى جانب ذلك، أعلن "عصمت إينونو"، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء ووزير الخارجية في الوقت نفسه، أن تركيا دولة علمانية، وبالتالي لا ترى ضرورة لإقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع الفاتيكان.
وفي عام 1932، قام مونسيور "بورجونجيني"، سفير الفاتيكان في إيطاليا، بزيارة السفير التركي هناك السيد "واصف"، وطلب منه تمثيلاً رسمياً للكرسي المقدس في تركيا، إلا أنه لم يحصل على رد إيجابي.
وفي الفترة بين عامي 1935 و1944، عمل "أنجليو رونكالي"، ممثلاً للبابا في تركيا قبل أن يتولى الباباوية، ويصبح اسمه لاحقًا "البابا يوحنا الثالث والعشرين". وقد ترك حضورُه بصمةً عميقة في تاريخ العلاقات الثنائية بين الطرفين، إذ كان يتحدّث عن محبته للأتراك في كل مناسبة، وساهم بجهد كبير في إزالة الصورة التاريخية السلبية بين الجانبين. وخلال إقامته في تركيا، أقام روابط وثيقة مع شخصيات سياسية بارزة، على رأسها "نعمان منمنجي أوغلو" و"جلال بايار"، الذي أصبح لاحقًا ثالث رئيس للجمهورية التركية. 
وتكشف إحدى المحطات الرمزية لقوة علاقته بتركيا أنه عند ترقيته إلى مرتبة الكاردينال في باريس عام 1953، دعا رؤساء بعثات ثلاث دول فقط: تركيا وكندا وإيطاليا، وهو ما اعتُبر رسالة تقدير خاصة لأنقرة.
وفي عام 1955، التقى رئيس الوزراء التركي "عدنان مندريس" ووزير خارجيته بالبابا "بيوس الثاني عشر" في إيطاليا، في محادثات استمرت 20 دقيقة، شكّلت خطوة إضافية على طريق التقارب بين الطرفين.
ثم جاءت زيارة الرئيس "جلال بايار" إلى إيطاليا عام 1959، حيث التقى صديقه "البابا يوحنا الثالث والعشرين". ورغم أن الزيارة جرت في إطار ودي غير رسمي، فإنها مثّلت البذرة الأولى لإقامة علاقات دبلوماسية بين الفاتيكان وتركيا. وقد استقبل الفاتيكانُ الرئيسَ "جلال بايار" والوفدَ المرافق له استقبالًا رسميًا لافتاً، اتّسم بالمراسم الرسمية والحفاوة الكبيرة، فيما حظيت الزيارة بتغطية واسعة في الصحف التركية والأوروبية، رغم عدم الكشف عن فحوى ما دار في اللقاء. ومع ذلك، نظر إليها كثيرون على أنها بداية عهد جديد بين الجانبين.
وفي 11 أبريل/نيسان 1960، قدّم "نور الدين ويرجن"، أول سفير لتركيا لدى الكرسي المقدس، أوراق اعتماده إلى البابا، غير أن السفارة لم تبدأ عملها فعليًا إلا بعد عامين.
ويشير المؤرخ "رينالدو مرمره" في كتابه "تركيا والفاتيكان: نحو علاقات ديبلوماسية"، الذي أعدّه استناداً إلى وثائق من أرشيف الفاتيكان، إلى أن "البابا يوحنا الثالث والعشرين" كان مهندس العلاقات الرسمية بين الطرفين، فهو من نسج خيوط الأخوة والصداقة بين العالمين، ونقلها من مستوى الود والتقارب الشخصي إلى مستوى العلاقات الدبلوماسية المعترف بها.
وتذهب بعض المصادر التركية إلى القول إن "البابا يوحنا الثالث والعشرين" لعب دورًا في إنقاذ الرئيس "جلال بايار" من حكم الإعدام بعد الانقلاب العسكري عام 1960، غير أن هذا الأمر ما يزال موضع جدل في الأوساط التاريخية والسياسية في تركيا.
لكن في الواقع اشتهر "البابا يوحنا الثالث والعشرين" بنظرته الإنسانية إلى العالم واعتباره البشر جميعًا أخوة، وهو الأمر الذي جعله يسلك مسالك كثيرة غيّرت تغييرات عميقة في الكنيسة الكاثوليكية.

تم نسخ الرابط