في عصر يتسارع فيه التطور التقني والاجتماعي بوتيرة مذهلة، تخرج علينا كل يوم جرائم جديدة لم تكن في الحسبان، جرائم تخرج من رحم التقنية وتستفيد من ثغرات التحولات المجتمعية، لتضع النظام الجنائي بأكمله على محك الاختبار إنها معضلة العصر الحديث كيف تواجه السياسة الجنائية جرائم لم تكن موجودة عندما صيغت نصوصها؟ كيف تحاصر أفعالاً إجرامية تخرج من شرنقة الخيال العلمي لتدخل واقعنا الملموس؟ بين نصوص قانونية جامدة وواقع متغير متسارع، تدور معركة صامتة بين التشريع الثابت والاجتهاد القضائي المتحرك، معركة ستحدد قدرة العدالة على مسايرة العصر.
لنتأمل المشهد الجنائي اليوم، فما كان بالأمس مجرد أفكار في روايات الخيال العلمي أصبح اليوم جرائم ملموسة القرصنة البيولوجية، الاحتيال بالذكاء الاصطناعي، التنمر الإلكتروني، التلاعب بالجينات، سرقة الهويات الرقمية، انتحال الشخصية في العالم الافتراضي، كلها جرائم ولدت من رحم التطور التقني وتربعت على عرش جديد للإجرام المعاصر النصوص القانونية التقليدية تقف عاجزة أمام هذه الظواهر، فكيف تواجه قانوناً صيغ في عصر الورق والأقلام جريمة تنفذ بلمسة زر في عالم افتراضي لا يعترف بالحدود؟
المشكلة الأساسية تكمن في بطء العملية التشريعية مقارنة بسرعة تطور الجريمة فبينما تحتاج عملية سن التشريعات إلى شهور وسنوات من الدراسة والمناقشة والتصويت، تخرج الجرائم المستحدثة كالفطر بعد المطر المجرمون لا ينتظرون موافقة البرلمانات، والجريمة لا تحترم الجدول الزمني للتشريع هذه الفجوة الزمنية بين ظهور الجريمة ومواجهتها تشكل بيئة خصبة لازدهار الإجرام الحديث.
في هذا الفراغ التشريعي الخطير، يبرز دور الاجتهاد القضائي كمنقذ للعدالة فالقضاة في ساحات المحاكم يواجهون يومياً جرائم لم ينص عليها المشرع، ويضطرون إلى تطبيق نصوص قديمة على وقائع جديدة، في عملية تشبه محاولة وضع مربع في دائرة إنها معاناة حقيقية لقضايا يبحثون في النصوص عن سند لقمع جرائم لم يخطر ببال المشرع أنها ستوجد فنرى القاضي يحاول تطبيق نصوص النصب والاحتيال على جرائم التلاعب بالبيانات الرقمية، ونصوص القذف والسب على جرائم التنمر الإلكتروني، ونصوص التزوير على جرائم انتحال الشخصية الرقمية.
لكن الاجتهاد القضائي ليس حلاً سحرياً، فله حدود يجب أن لا يتجاوزها فالقاضي مقيد بمبدأ الشرعية الجنائية الذي يمنعه من تجريم ما لم ينص عليه المشرع إنها معضلة قانونية وأخلاقية، فمن ناحية هناك ضرورة ملحة لمواجهة الجرائم المستحدثة، ومن ناحية أخرى هناك التزام صارم بعدم تجريم أفعال لم ينص عليها القانون كيف نوازن بين متطلبات العدالة وضرورات الشرعية؟ كيف نحمي المجتمع دون أن نمس بحقوق الأفراد؟
بعض القضاة يلجأون إلى التفسير الموسع للنصوص القائمة، فيطبقون نصاً وضع لجرائم تقليدية على جرائم مستحدثة تتشابه معها في الجوهر وإن اختلفت في الشكل هذا النهج وإن كان مفيداً في بعض الحالات، إلا أنه يحمل مخاطر كبيرة، فقد يؤدي إلى تجريم أفعال لم يقصد المشرع تجريمها، أو يوقع عقوبات لا تتناسب مع طبيعة الجريمة المستحدثة إنها لعبة خطرة على حافة الهاوية.
في المقابل، نجد بعض المحاكم ترفض الخوض في هذا المجال، وتتمسك بحرفية النص وتبعات مبدأ الشرعية، تاركة المجرمين يفلتون من العقاب لمجرد أن المشرع لم يدرك سرعة تطور الجريمة هذا التباين في الاجتهادات يخلق حالة من عدم اليقين القانوني، ويؤدي إلى أحكام متضاربة في قضايا متشابهة، مما يهز ثقة الجمهور في العدالة.
الحل الأمثل يكمن في تطوير سياسة جنائية مرنة، تجمع بين مرونة الاجتهاد القضائي وقوة النص التشريعي نحتاج إلى تشريعات إطارية واسعة تستوعب المستجدات، بدلاً من النصوص التفصيلية التي تتقادم قبل أن يجف حبر إصدارها. نحتاج إلى قوانين تحدد المبادئ العامة للجرائم المستحدثة وتترك للقاضي مهمة تطبيقها على الوقائع الجديدة نحتاج إلى تعاون بين المشرع والقاضي في مواجهة التحديات الجنائية المعاصرة.
الأهم من ذلك، نحتاج إلى تطوير آليات تشريعية سريعة الاستجابة، تمكن المشرع من ملاحقة الجرائم المستحدثة قبل أن تتفشى في المجتمع تشريعات استباقية بدلاً من رد الفعل، سياسات جنائية قادرة على التكيف مع المستقبل بدلاً من الاكتفاء بمواجهة الحاضر.
التحدي الحقيقي يتمثل في تطوير فهم جديد للسياسة الجنائية، سياسة لا تقف عند حدود العقاب والردع، بل تمتد إلى الوقاية والحماية سياسة تستشعر المستقبل وتستعد له، لا تنتظر حتى تقع الجريمة لتبحث عن عقاب لها في عصر الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، لم يعد مقبولاً أن تظل السياسة الجنائية أسيرة النمط التقليدي في التفكير.
الجرائم المستحدثة ليست مجرد تحدٍ قانوني، بل هي اختبار لقدرتنا كمجتمع على الحفاظ على الأمن والاستقرار في عالم متغير إنها معركة بين الإبداع في الإجرام والإبداع في المواجهة، بين ذكاء المجرمين وذكاء النظام الجنائي النجاح في هذه المعركة يتطلب جرأة في التشريع، وشجاعة في الاجتهاد، ورؤية في السياسة الجنائية.
في الختام، يمكن القول إن مواجهة الجرائم المستحدثة تتطلب شراكة حقيقية بين التشريع والاجتهاد القضائي فالمشرع عليه أن يضع الأطر العامة المرنة، والقاضي عليه أن يملأ هذه الأضواء بروح العصر وبما يحقق العدالة لا يمكن للتشريع وحده أن يلاحق كل الجرائم المستحدثة، ولا يمكن للاجتهاد القضائي أن يحل محل الإرادة التشريعية يمكن للسياسة الجنائية أن تظل فعّالة في عصر يتغير بسرعة البرق المستقبل يحمل المزيد من التحديات، والاستعداد له يبدأ اليوم