تشهد القارة الأفريقية منذ مطلع الألفية توسعًا صينيًا غير مسبوق، ليس فقط عبر المشروعات العملاقة في البنية التحتية والطرق والموانئ والطاقة، بل أيضًا من خلال “اختراق ثقافي ناعم” يعتمد على نشر اللغة الصينية وتوسيع الوجود التعليمي عبر عشرات الجامعات ومراكز التعليم. فقد أدخلت أكثر من عشر دول أفريقية تدريس اللغة الصينية داخل مدارسها الثانوية والجامعية، بعضها جعلها مادة اختيارية، والبعض الآخر أدخلها في برامج التعليم الفني، بينما تزايد عدد معاهد “كونفوشيوس” التي أصبحت منتشرة اليوم في أغلب العواصم الأفريقية كمراكز لتعليم اللغة والثقافة الصينية.
ووفق البيانات المعلنة خلال القمم الأخيرة لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC)، يوجد اليوم ما يزيد عن ستين معهد “كونفوشيوس” وأكثر من سبعين فصلًا تعليميًا تابعًا لها داخل القارة، وبعض الدول مثل كينيا، تنزانيا، إثيوبيا وغانا تمتلك وحدها أعدادًا كبيرة من الطلاب المتخصصين في اللغة الصينية. كما أعلنت الصين خلال السنوات الماضية عن خطط لتدريب أكثر من عشرة آلاف فني وتقني أفريقي سنويًا، إلى جانب إرسال مئات المعلمين والخبراء إلى المدارس والجامعات الأفريقية، إضافة إلى تقديم منح دراسية متزايدة للشباب الأفريقي للدراسة في الصين. وأصبحت الجامعات الأفريقية تضم أقسامًا كاملة للغة الصينية، كما تزايدت أعداد الطلاب الذين يسافرون سنويًا إلى الصين سواء للدراسة أو التدريب أو الالتحاق بالبرامج المهنية.
تبدو هذه الجهود التعليمية والثقافية جزءًا من مشهد أكبر؛ فالصين لا تعتمد فقط على استثماراتها الهائلة داخل أفريقيا، بل تربط هذه الاستثمارات بوجود ثقافي وتعليمي عميق. ومع توسع الشركات الصينية في قطاعات التعدين والطرق والطاقة والاتصالات، أصبحت الحاجة لعمالة محلية تتحدث الصينية أمرًا ضروريًا لتسهيل العمل وتقليل التكلفة وتسريع تنفيذ المشروعات، وهو ما جعل تعليم الصينية عنصرًا مهمًا في تعزيز نفوذ الصين داخل القارة.
لكن هذا التوسع الثقافي لم يكن وحده سر النفوذ الصيني. فالصين اليوم هي أكبر مستورد للمواد الخام الأفريقية من معادن ونفط ومحاصيل استراتيجية، وتسيطر شركاتها على نسبة ضخمة من مشروعات البنية التحتية في القارة. ففي دول مثل الكونغو الديمقراطية وزامبيا تتمتع الشركات الصينية بنفوذ كبير داخل قطاع التعدين وخاصة الكوبالت والنحاس، بينما في كينيا وإثيوبيا ونيجيريا تمول الصين مشروعات طرق وسكك حديد ومحطات كهرباء واسعة النطاق. ومقابل هذه المشروعات، تحصل الشركات الصينية على امتيازات طويلة الأمد تضمن لها الوصول إلى الموارد الطبيعية بأقل تكلفة.
في المقابل، وبرغم أن الكثير من الدول الأفريقية استفادت من المشروعات الصينية، فإن المعاناة الإنسانية للعمال المحليين داخل بعض الشركات الصينية أصبحت حديثًا متكررًا داخل القارة. ففي زامبيا اشتكى عمال المناجم من ظروف عمل خطرة وأجور منخفضة، وفي أوغندا ظهرت تقارير عن سوء معاملة داخل مواقع البناء، بينما أثارت كينيا ضجة كبيرة مؤخرًا بعد انتشار فيديو لمدير صيني يعتدي بالضرب على عامل كيني، ما كشف عن اختلال ميزان القوة داخل مواقع العمل، وعن فجوة ثقافية واضحة بين الإدارة الصينية والعمال المحليين.
ومع كل ذلك، تمكنت الصين من تحويل وجودها في أفريقيا من مجرد وجود اقتصادي إلى وجود اجتماعي وثقافي. فهناك اليوم آلاف من الشباب الأفارقة الذين يتحدثون الصينية بطلاقة، ويعملون في الشركات الصينية كمترجمين ومديري مشروعات ومشرفين. وأصبح لدى الصين جيل كامل من الشباب الأفريقي الذي تربطه بها علاقات تعليمية وثقافية تجعلها شريكًا طبيعيًا في نظره. وهذا بالضبط هو جوهر “القوة الناعمة” التي أسست لها الصين: علاقة تتجاوز العواصم والحكومات لتصل إلى الناس مباشرة.
وفي الوقت الذي تكسب فيه الصين من أفريقيا أكثر مما يكسب أي طرف آخر، فإنها تنجح في تقديم نفسها دائمًا على أنها “شريك تنموي” وليس قوة استعمارية جديدة. القوة الحقيقية تأتي من الدمج بين النفوذ الاقتصادي والثقافي، بين الشركات والجامعات، بين الطرق والمناهج الدراسية، بين الاستثمارات واللغة
اخيرا لماذا لا تستفيد مصر من التجربة الصينية؟
وهنا يبرز السؤال الأهم: إذا كانت الصين قد حققت هذا النفوذ الضخم في أفريقيا من خلال التعليم والثقافة واللغة، فلماذا لا تستفيد مصر من التجربة نفسها؟
فمصر تمتلك واحدة من أقوى أدوات القوة الناعمة في المنطقة: اللغة العربية، الثقافة المصرية، الأزهر، الدراما والسينما، العمق التاريخي، والمكانة الأفريقية الطبيعية.
تستطيع مصر أن تبني مراكز ثقافية وتعليمية في العواصم الأفريقية، وتقدّم منحًا للطلاب، وتفتح برامج لتعليم العربية، وتعيد التواصل الثقافي مع شعوب أفريقيا. فالقارة تحترم مصر وتاريخها وقيمتها، وما تحتاجه مصر اليوم هو رؤية واضحة طويلة المدى تبني علاقة ثقافية وإنسانية مستدامة، تمامًا كما تفعل الصين، ولكن بما يعكس الهوية المصرية وبما يخدم المصالح المشتركة مع القارة التي ترتبط بنا بالتاريخ والجغرافيا والمستقبل.