في قاعة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، حيث تُفصَّل أحكام العدالة الدولية بكل وقار وجلال، هناك سؤال مرير يلوح في الأجواء ما قيمة هذه الأحكام إن بقيت حبراً على ورق؟ إنها معضلة تؤرق الضمير العالمي، فبينما ترفع المحكمة مطرقة العدالة لتعلن إدانة مجرمي حرب ومرتكبي جرائم ضد الإنسانية، نجد دولاً كبرى وصغرى تتجاهل هذه الأحكام بكل برودة، وكأن شيئاً لم يكن هذه المفارقة الصارخة بين الجهد القضائي الجبار والعجز التنفيذي المهين تمثل أحد أعظم التحديات التي تواجه النظام الدولي اليوم فالمحكمة الجنائية الدولية، ذلك الصرح القضائي الذي تأسس على أحلام إنسانية عظيمة، يتحول تدريجياً إلى أسير لسياسات الدول ومصالحها الضيقة.
لننظر إلى واقع الحال، فالمحكمة تفتقر إلى جهاز تنفيذي خاص بها، فهي تعتمد كلياً على تعاون الدول الأعضاء في تنفيذ مهامها هذه الآلية التشاركية التي بدت جميلة على الورق، تحولت إلى نقطة ضعف قاتلة في الواقع فالدول تختار انتقائياً متى تتعاون ومتى ترفض، متى تنفذ ومتى تتجاهل إنها لعبة سياسية بامتياز، حيث تتدخل الاعتبارات الجيوسياسية والعلاقات الثنائية والمصالح الوطنية لتعطيل مسيرة العدالة فكم من مجرم حرب ظل طليقاً لأن دولته قوية أو لأنها تملك أوراق ضغط في المسرح الدولي؟ وكم من ضحية ظلت تنتظر العدالة التي لا تأتي لأن الجلاد يحميه حدود دولة لا تعترف بسلطة المحكمة؟
الأمر لا يقتصر على الدول غير الأعضاء فحسب، بل يمتد إلى دول وقعت على النظام الأساسي للمحكمة وصدقت عليه، ثم تناست التزاماتها عندما دقت ساعة المساءلة إنها ازدواجية المعايير التي تميز العلاقات الدولية، فالدول تحبذ المحكمة عندما تدين خصومها، ولكنها تتوارى عندما تمس مصالحها أو مصالح حلفائها هذه النفاق السياسي يحول المحكمة إلى أداة انتقائية في يد الأقوياء، بدلاً من أن تكون منبراً للعدالة العالمية التي لا تميز بين قوي وضعيف.
واجهت المحكمة هذا التحدي بشكل صارخ في قضايا متعددة، ففي قضية الرئيس السوداني عمر البشير، تجول الرجل في دول أعضاء المحكمة دون أن يعتقل، مسخراً سيادة الدولة وحصانة الرئيس سلاحاً ضد العدالة الدولية وفي القضية الليبية، لم تستطع المحكمة محاكمة سيف الإسلام القذافي رغم توجيه الاتهام إليه، وظلت القضية تدور في حلقة مفرغة هذه الأمثلة ليست سوى غيض من فيض، فهناك العشرات من المطلوبين الذين يعيشون بحرية في دول ترفض تسليمهم أو حتى الاعتراف باختصاص المحكمة.
التحدي الأكبر يتمثل في موقف القوى الكبرى من المحكمة، فالدول العظمى تملك حق النقض في مجلس الأمن، وتستخدم هذا الحق لحماية حلفائها من الملاحقة القضائية كما أن بعض الدول لم تنضم أساساً إلى نظام المحكمة، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، مما يعني أن مواطنيها خارج نطاق المساءلة إلا في حالات نادرة هذا الواقع يخلق نظاماً طبقياً في العدالة الدولية، حيث يصبح الضعفاء وحدهم عرضة للمحاكمة، بينما يتمتع الأقوياء بحصانة شبه مطلقة.
إشكالية التنفيذ لا تقتصر على تسليم المطلوبين، بل تمتد إلى مجالات أخرى مثل تجميد الأصول، وجمع الأدلة، وحماية الشهود، كلها مجالات تعتمد على التعاون الوطني فكم من دليل ضاع لأن دولة ما رفضت السماح لفريق المحكمة بالدخول إلى أراضيها؟ وكم من شاهد تعرض للترهيب لأن نظام الحماية الوطني فشل في حمايته؟ إنها حلقة مفرغة من العجز والتبعية تجعل المحكمة أسيرة لإرادة الدول.
في مواجهة هذا الواقع المرير، تبرز محاولات متواضعة لتعزيز فعالية المحكمة، فبعض الدول سنت تشريعات وطنية لتسهيل التعاون مع المحكمة، بينما حاولت جمعيات دولية الضغط على الدول الممتنعة لكن هذه الجهود تبقى غير كافية في عالم تسيطر عليه السياسة بمنطق القوة فما قيمة التعهدات الدولية إن لم تترجم إلى أفعال؟ وما فائدة المواثيق والإعلانات إن لم تدعمها آليات تنفيذية فاعلة؟
المحكمة الجنائية الدولية تقف على مفترق طرق، فإما أن تتحول إلى مجرد منظمة إنسانية تقدم التعاطف الأخلاقي دون فعالية حقيقية، أو أن تجد الوسيلة لكسر قيود السيادة الوطنية وتطوير آليات تنفيذية مستقلة الحل قد يكمن في تعزيز دور المجتمع المدني العالمي، أو في خلق تحالفات إقليمية داعمة، أو في تطوير نظام عقوبات على الدول الممتنعة لكن يبقى التحدي الأكبر هو إقناع الدول بأن العدالة الدولية ليست تهديداً لسيادتها، بل ضمانة لاستقرار النظام العالمي.
العدالة التي تنتظر الضحايا لا تعرف التأجيل، والألم الذي يعانيه الأبرياء لا يحتمل المماطلة كل يوم يمر دون تنفيذ أحكام المحكمة هو انتصار للجلاد وهزيمة للضحية إنها معركة بين قيم الإنسانية العليا وأنانية الدول، بين نداء الضمير العالمي وصخب المصالح الوطنية. التاريخ سيسجل أن العالم في مطلع القرن الحادي والعشرين امتلك الآلية القضائية لمحاكمة مجرمي الحرب، لكنه افتقر إلى الإرادة السياسية لجعل هذه الآلية فعالة. المحكمة الجنائية الدولية ليست مجرد مبنى في لاهاي، بل هي ضمير البشرية جمعاء، وعندما نسمح بإفلات المجرمين من العقاب، فإننا لا نخون الضحايا فقط، بل نخون إنسانيتنا ذاتها.