رسالة من قلب النيل.. لماذا تم فتح مفيض توشكى الآن؟ خبراء يجيبون لـ"نيوز رووم"
في خطوة تعكس دقة اللحظة وحساسية المشهد المائي في حوض النيل، أعلنت مصر فتح مفيض توشكى لاستيعاب الزيادات الكبيرة الواردة من النيل الأزرق، بعد فتح إثيوبيا بوابات سد النهضة بصورة مفاجئة وغير منسّقة. القرار الذي اتخذته القاهرة ليس مجرد إجراء فني، بل رسالة واضحة بأن بحيرة ناصر بلغت مستويات حرجة من الامتلاء، وأن تدفقات المياه غير المتوقعة تفرض على مصر استخدام أدوات الحماية المائية لضمان سلامة السد العالي وإدارة المخزون المائي بكفاءة. ويثير هذا التطور تساؤلات واسعة حول أسباب التصرفات الإثيوبية الأخيرة، وتأثيراتها المحتملة على الأمن المائي المصري واستقرار منظومة إدارة النهر خلال الفترة المقبلة.
فتح مفيض توشكى
وفي التقرير التالي يرصد لكم موقع نيوز رووم، سبب فتح مصر لمفيض توشكى:
يقول الدكتور محمد نصر علام، وزير الموارد المائية والري الأسبق، إن فتح مفيض توشكى يعكس بوضوح أن هناك عدم رغبة أو عدم قدرة على الاستمرار في التخزين داخل بحيرة ناصر، موضحًا أن هذا الإجراء يعنى ــ من الناحية الفنية ــ أن البحيرة ممتلئة أو أوشكت على الامتلاء، وهو ما يستدعي تصريف المياه عبر المفيض كخيار طبيعي لحماية السد العالي.
السلوك المائي غير المتوقع للنيل الأزرق
وأضاف علام في تصريحات خاصة لـ نيوز رووم، أن القلق الحقيقي لا يرتبط بالمفيض ذاته، بقدر ما يتعلق بـ السلوك المائي غير المتوقع للنيل الأزرق خلال هذه الفترة الزمنية، إلى جانب ما وصفه بـ سوء الإدارة الإثيوبية خلال العام الماضي، مشيرًا إلى أن أديس أبابا حاولت الوصول إلى أقصى مستوى تخزين في سد النهضة دون مبرر منطقي، سوى الرغبة في فرض أمر واقع وسياسة مستقبلية ثابتة في إدارة مياه النهر.
وعن أسباب التعنت الإثيوبي فيما يخص التعاون المائي، أوضح الدكتور علام أن هذا النهج «ليس جديدًا»، مؤكدًا أن إثيوبيا تاريخيًا تتعامل مع مياه النيل باعتبارها أداة ضغط وتهديد، وليس أساسًا للتعاون والتنمية المشتركة، رغم أن التعاون مع مصر صاحبة الخبرة الفنية الطويلة كان سيحقق مكاسب للطرفين. ولفت إلى أن فتح بوابات السد من جانب إثيوبيا عدة مرات «تم رغماً عنها»، وهو ما يكشف حجم الإشكالات الفنية التي تتجاهلها القيادة الإثيوبية.
وختم علام بأن المشهد واضح ولا يحتاج إلى كثير من التفسير: استمرار النهج الأحادي الإثيوبي لا يخدم مصالحها ذاتها، ويظل مصدر توتر بدلاً من أن يكون منطلقًا للتنمية المشتركة التي يستحقها حوض النيل.
حجم الاضطراب في الموقف الإثيوبي
وقال اللواء حاتم باشات، عضو لجنة الشؤون الأفريقية بمجلس النواب سابقًا، إن تطورات ملف سد النهضة خلال الفترة الأخيرة تكشف حجم الاضطراب في الموقف الإثيوبي، سواء من خلال التصريحات أو الإجراءات على الأرض، وخاصة وأن الرسومات الهندسية لسد النهضة من البداية تؤكد أن به مشكلة، وأن هناك عددا من الشركات التي انسحبت بسبب عدم ضمان أمان السد؛ وبالتالي ما يحدث الآن من تسريب للمياه بسبب كمية الضغط الكبيرة على جسم السد والتي من الممكن أن تؤدي إلى انهياره، سوف تؤثر بصفة خاصة على السودان، كما يمكن أن تغير مجرى نهر النيل.
فتح بوابات السد
وأوضح "باشات"، في تصريحات خاصة لـ نيوز رووم، أن فتح بوابات السد لم يعد قرارًا إراديًا بقدر ما أصبح نتيجة مباشرة لضغط المياه الهائل خلف السد، ما يعكس فشلًا واضحًا في الإدارة الفنية، وعلى الرغم من ذلك ما زالت مصر متمسكة بالمسار التعاوني باعتباره السيناريو الأول والأفضل.مشيراً إلى أن القاهرة جاهزة سياسيًا وفنيًا لأي تفاوض جاد يضمن مصالح الجميع. لكن في المقابل، على حد قوله، تستمر أديس أبابا في إطلاق تهديدات غير مسؤولة، سواء عبر تصريحات رسمية أو تحركات عسكرية في السودان، وهو ما يعتبره باشات محاولة لصنع أزمة لا مبرر لها.
السلوك الإثيوبي
وأضاف أن السلوك الإثيوبي يُظهر غيابًا كاملاً لمبدأ حسن النية، فالتعاون مع مصر ـ رغم ما تمتلكه من خبرات واسعة في إدارة السدود والتحكم المائي ـ كان كفيلًا بتجنب أغلب هذه الأزمات، لكنّ الجانب الإثيوبي يصر على اتخاذ قرارات أحادية بلا تشاور أو تنسيق، وهو ما يعكس،وفق قوله، توجهاً قديماً لدى أديس أبابا يقوم على استخدام المياه كأداة ضغط لا كوسيلة للتنمية المشتركة.
وأكد اللواء باشات، يجب على مصر أن تكون جاهزة لكل السيناريوهات، سواء دبلوماسية أو تفاوضية أو عسكرية، وخاصة وأن إثيوبيا تتحرك في إطار «مخطط أكبر» لا يصنعه القرار الإثيوبي وحده، بل تقف خلفه أطراف خارجية تستغل موقعها المائي لتحقيق نفوذ إقليمي. وتابع: "حتى لو كان هناك خطر فني أو إنشائي على سد النهضة، الجانب الإثيوبي لا يريد الاعتراف ولا الاستماع لأي نصيحة مصرية، رغم أن أي خلل سيؤثر عليه قبل غيره."
مشكلات إنشائية متكررة
وأكد أن تاريخ إثيوبيا في بناء السدود يكشف عن مشكلات إنشائية متكررة، وأن بعض محاولاتها الحالية ما هي إلا ردود فعل على بناء السد العالي منذ عقود، رغم أن القاهرة لم تتعامل يوماً مع مياه النيل باعتبارها أداة تهديد.
وختم اللواء باشات حديثه قائلاً:" الحقيقة واضحة ومؤكدة في الوثائق والمقالات والمؤتمرات الدولية: مصر تسعى إلى الاستقرار، بينما إثيوبيا تتصرف بعكس مصالحها ومصالح المنطقة. نتمنى أن تدرك أديس أبابا أن التعاون هو الخيار الوحيد القادر على حماية الجميع".
تداعيات خطيرة نتيجة الملء الأحادي
وقال الدكتور عباس شراقي، أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، إن مصر واجهت خلال السنوات الماضية تداعيات خطيرة نتيجة الملء الأحادي لسد النهضة، حيث قامت إثيوبيا بحجز ما يقارب 64 مليار متر مكعب من المياه كانت في طريقها إلى مصر.
وأوضح "شراقي"، في تصريحات خاصة لـ «نيوز رووم»، أن الدولة اتخذت إجراءات واسعة للحفاظ على أمنها المائي، من بينها تبطين الترع والتوسع في محطات تحلية المياه، إلى جانب الاعتماد على السد العالي الذي وصفه بأنه الحصن الحصين، والذي حمى نحو 5 ملايين فدان كان من الممكن أن يتوقف زراعتها بسبب نقص المياه.
عدة سيناريوهات محتملة
وأضاف "شراقي"، أن الحكومة المصرية درست عدة سيناريوهات محتملة للتعامل مع الإدارة الإثيوبية للسد، وفي مقدمتها احتمالات سوء تشغيل السد أو استخدام البوابات لإطلاق كميات ضخمة من المياه، ما قد يؤدي إلى فيضانات كبيرة في السودان.
وأشار إلى أن هناك سيناريو آخر يتعلق بحدوث فيضانات طبيعية كبرى، وفي هذه الحالة يتم الاعتماد على فتح مضيق توشكى لتصريف المياه الزائدة.
انهيار السد الإثيوبي
كما أوضح أن أحد السيناريوهات الأكثر خطورة يتمثل في احتمال انهيار السد الإثيوبي، وهو ما يعني تدفق كميات هائلة من المياه، قائلا: إن مصر تستعد لهذا السيناريو من خلال رفع كفاءة وقدرة السد العالي على استيعاب المياه، خاصة أن مضيق توشكى يستطيع تصريف نحو ثلث مليون متر مكعب يوميًا، بينما يمكن للبوابات الحالية تصريف ما بين نصف مليار متر مكعب، وفي حال تدفقت كميات أكبر ستتعرض بعض المحافظات للغرق، لكنه سيكون – بحسب تعبيره – الثمن الواجب دفعه لحماية السد العالي.
تطوير وتوسعة مضيق توشكى
وأكد "شراقي" أن الدولة تعمل حاليًا على تطوير وتوسعة مضيق توشكى ليصبح قادرًا على تصريف مليار متر مكعب يوميًا، بما يسمح بالحفاظ على منسوب آمن لمياه النيل ويمنع غرق المناطق السكانية.
وأشار إلى أن الحكومة تتحسب كذلك لحدوث أي تطورات في سدود السودان، خاصة بعد الهجمات التي تعرض لها سد مروي من قبل قوات الدعم السريع، ما يعزز أهمية رفع جاهزية منشآت الصرف المصرية.
وتابع أن إثيوبيا تمتلك 21 بوابة في سد النهضة، وعندما فتحت 4 بوابات فقط حدثت فيضانات كبيرة في السودان، وهو ما يثبت أن فتح عدد أكبر قد يسبب كارثة، وأكد أن مصر بدورها تمتلك عدة سيناريوهات جاهزة للتعامل مع أي تطورات مفاجئة مرتبطة بسد النهضة أو أي من السدود في دول الجوار.