التشافي النفسي لا يبدأ من العلاج .. ولكن من كشف جذور التعلّق
تجربة العلاج النفسي لا تقوم فقط على الفضفضة أو البحث عن حلول للمشكلات اليومية فالعلاج في جوهره مساحة آمنة تُبنى فيها علاقة إنسانية مختلفة تمامًا عن العلاقات التي نختبرها في العالم الخارجي
حيث تحترم الحدود، وتصان المشاعر وتتاح لك فرصة التعبير دون أحكام
ولأن العلاقة بين الشخص ومعالجه علاقة حقيقية حتى وإن كانت مهنية فهي تكشف شيئا أساسيا في تركيبتنا النفسية: أسلوب التعليق الذي نحمله منذ طفولتنا
فطريقة ارتباطنا بالاخرين وثقتنا بهم وحدود قربنا أو بعدنا عنهم كلها عوامل تؤثر في الطريقة التي نتعامل بها مع العلاج، وكيف نفهم القرب من المعالج، أو حتى لماذا قد نخشى «التعلق» به
ما أسلوب التعلق؟
أسلوب التعلق هو مفهوم أسسه الطبيب البريطاني جون بولبي يشير إلى أنماط العلاقة التي يبنيها الإنسان منذ سنواته الأولى مع مقدمي الرعاية. هذه الأنماط تستمر لاحقا لتؤثر في علاقاته العاطفية المهنية والاجتماعية وحتى علاقته بمعالجه النفسي
وتشير الأبحاث إلى أن الأشخاص ذوي الطابع الآمن يحققون نتائج علاجية أفضل بينما يواجه أصحاب التعليق القلق أو التجنبي أو المتناقض صعوبات في بناء علاقة مستقرة داخل الجلسات
وفيما يلي أبرز تأثيرات كل نمط على تجربة العلاج:
التعلق التجنبي: خوف من الاقتراب وخوف من الاعتماد
الأشخاص الذين يميلون إلى التعلق التجنبي يجدون صعوبة في الاقتراب من الآخرين. لا يتعلق الأمر بالخوف من مواجهة الصعوبات، بل بالخوف العميق من الاعتماد على أحد. لذلك قد يفضّلون تقليل الجلسات، أو تغيير المعالج من حين لآخر، أو حتى التوقف عن العلاج برمّته.
يظهر الخوف من «التعلق بالعلاج» لديهم كنوع من الدفاع:
إذا سمحوا لأنفسهم بالاقتراب، سيشعرون بأنهم يفقدون استقلاليتهم.
ولهذا يتجنبون الحديث عن مشاعرهم، ويقللون من أهمية الألم العاطفي ويستخدمون المنطق بدل المشاعر كدرع نفسي.
التعلق القلق: رغبة في القرب وخشية من الهجر
على النقيض تماما، قد يدخل أصحاب هذا النمط في العلاقة العلاجية بحذر شديد. يريدون الشعور بالأمان، لكنهم يخشون فقدانه في أي لحظة. وقد يتم تفسير أي غياب للجلسة، أو أي تغيير بسيط في نبرة المعالج، على أنه علامة على الابتعاد أو الرفض.
الخوف من «التعلق الزائد بالمعالج» هنا ليس خوفا من الاعتماد، بل خوف من فقدان العلاقة
وفي داخلهم يعيشون صراعا بين الرغبة في القرب والرغبة في حماية النفس من الخذلان
التعلق غير المنظم: بين الاقتراب والانسحاب
ينشأ هذا النمط عادة عندما يكون مقدم الرعاية مصدرًا للدعم، ومصدرًا للأذى في الوقت نفسه. لذلك ينمو الطفل على فكرة أن القرب قد يعني الحماية أو الخطر، مما يجعل علاقاته المستقبلية مضطربة وغير مستقرة.
في العلاج، يظهر هذا التناقض واضحا:
قد يقترب الشخص من المعالج بشدة خلال الأزمات، يشعر بالأمان ثم فجأة يبتعد أو يلغي الجلسات أو يشكك في جدوى العلاج
يخاف من القرب لأنه يهدد استقراره ويخاف من البعد لأنه يشعره بالفقد.
لماذا يخاف البعض من «التعلق بالعلاج»؟
هذا الخوف بحسب المختصين؛ ليس خوفا من العلاج نفسه، بل من إعادة اختبار مشاعر قديمة مرتبطة بالطفولة: الخذلان الرفض، التبعية، الفقد، أو الخوف من الخطأ.
في الحقيقة، هذا الخوف غالبا باب لعمل علاجي عميق. فعندما يتمكن الشخص من تسمية هذه المخاوف ومناقشتها مع معالجه، يصبح الطريق ممهدا لفهم جذورها والتعامل معها بوعي جديد.
في النهاية المعالج ليس نقطة وصول؛ بل نقطة بداية. والعلاج الجيد لا يهدف إلى خلق اعتماد دائم على المعالج، بل إلى بناء قدرة حقيقية على الاعتماد على الذات، على العلاقات الصحية، وعلى الوعي العاطفي. بحيث يوفر المعالج «قاعدة آمنة» مؤقتة، تساعد الشخص على اختبار نمط جديد من الارتباط قائم على الثقة، والحدود، والاحترام
ومع الوقت، ينضج هذا الارتباط ليصبح حجر أساس لعلاقات أقوى وأكثر توازنا داخل الجلسة وخارجها.