بدأ بابا الفاتيكان "ليون الرابع عشر" أولى جولاته الخارجية بزيارته الحالية إلى جمهورية تركيا، وهي الزيارة التي كان من المقرر أن يقوم بها سلفه الراحل البابا "فرنسيس" في مايو الماضي. وقد أعادت هذه الزيارة إحياء النقاش حول تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والكرسي المقدس، وهو تاريخ يمتد عميقًا إلى قلب الحقبة العثمانية، رغم أن العلاقات الرسمية الحديثة بين الجانبين لم تُعلن إلا عام 1960.
تعود جذور التواصل بين الإمبراطورية العثمانية والفاتيكان إلى القرن الخامس عشر، منذ عهد السلطان "محمد الفاتح"، إذ ظلّ الطرفان يحتفظان بتمثيل دبلوماسي يتناسب مع الظروف والتوازنات التي فرضها الوضع الدولي آنذاك.
وكانت فرنسا ـــ صاحبة النفوذ الواسع في نهاية الحقبة العثمانية ــ من أبرز القوى المعارضة لأي تطور في العلاقات بين الفاتيكان وتركيا.
وتكشف السجلات التاريخية أن السلطان العثماني "عبد الحميد الثاني" تقدّم رسميًا عام 1901م بطلب إقامة علاقات دبلوماسية مع الكرسي المقدس، وكان حريصًا على إرسال مبعوث عثماني إلى الفاتيكان.
ويذكر المؤرخ "رينالدو مرمره" في كتابه "تركيا والفاتيكان: نحو علاقات ديبلوماسية" الذي أعده بوثائق حصل عليها من أرشيف الفاتيكان أن البابا "ليون الثالث عشر" كلّف ثلاثة من الكرادلة بدراسة طلب السلطان، وانتهى الرأي إلى أن الوقت غير ملائم لإقامة علاقات مع الدولة العثمانية، بسبب التوترات الدينية الحادة في فرنسا، إضافة إلى تشكّك الفاتيكان في التزام السلطان بتعهداته لحماية الكاثوليك في الشرق.
وفي المقابل، تغيّر الموقف في عهد السلطان "محمد رشاد"، إذ بادر الفاتيكان، هذه المرة، إلى طلب إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع الدولة العثمانية عام 1909، إلا أن باريس تدخلت مجددًا لتعطيل الخطوة، مستندة إلى الامتيازات الأجنبية الواسعة التي تمتعت بها داخل الدولة العثمانية. فقد كانت فرنسا قد قطعت علاقاتها بالفاتيكان آنذاك، وضغطت بقوة لمنع أي تقارب بين استانبول والكرسي المقدس.
وقد كشفت وثائق الفاتيكان ــ التي نشرها المؤرخ "رينالدو مرمره" في كتابه سالف الذكر ــ عن حوار بالغ الحساسية دار بين وزير الخارجية العثماني "رفعت باشا" وممثل البابا، "المونسنيور فينست". إذ كان "رفعت باشا" واضحًا في اعتذاره، قائلًا:
"نعرف أن قداسة البابا، بعيدًا عن مهامه الدينية، يضمر لنا كثيرًا من الود. وأسفنا مماثل لأسفكم. نحن نرغب فعلًا في إقامة علاقات مباشرة، لكننا مضطرون إلى انتظار الوقت المناسب. ففرنسا تعارض بشدة أي لقاء، وموقفنا دقيق للغاية. نحن بحاجة إلى فرنسا لحل العديد من المشكلات، وأي خطوة غير محسوبة ستُحدث أزمة دبلوماسية. ولا نظن أن الكرسي المقدس يريد أن يسبب لنا متاعب".
وبرغم العراقيل، عادت الحكومة العثمانية نهاية عام 1914 لتقترح مجددًا إقامة علاقات رسمية مع الفاتيكان. وبعث المونسنيور "أنجلو ماريا دولسي"، ممثل البابا في "استانبول" ببرقية سرية إلى وزير خارجية الكرسي المقدس، قال فيها:
"تريد الحكومة العثمانية عقد اتفاقية مع الكرسي المقدس وتعيين سفير لها. وقد منحت ضمانات بأن الجيش سيؤمّن جميع الكنائس في الإمبراطورية".
لكن أجواء ما قبل الحرب العالمية الأولى، إلى جانب استمرار الاعتراض الفرنسي، جعلت هذه المبادرة غير قابلة للتحقق.
وبانتهاء الحرب العالمية الأولى، طويت صفحة الدولة العثمانية وولدت الجمهورية التركية الحديثة، لتبدأ مرحلة جديدة من محاولات بناء علاقة رسمية مع الفاتيكان، قادها رئيس الوزراء ووزير الخارجية التركي آنذاك "عصمت إينونو"، وهي المرحلة التي سنواصل تناولها في المقال القادم بإذن الله.