مساجد تاريخية |مسجد أبو الحجاح الأقصري نموذج لتعايش الأديان وتواصل الحضارات
على ارتفاعٍ يعلو أطلال معبد الأقصر الفرعوني بنحو عشرة أمتار، يتربّع مسجد سيدي أبو الحجاج الأقصري كأحد أكثر المعالم الدينية إثارة للدهشة في مصر، وكنموذج فريد لتعايش الأديان وتواصل الحضارات القديمة في قالب معماري وروحاني واحد.
فمنذ بناء مسجد أبو الحجاج الأقصري في القرن السابع الهجري، ظل المسجد شاهدا على مراحل التحول الثقافي والديني في مدينة تعَد أكبر متحف مفتوح في العالم.
قصة المسجد
تعود قصة المسجد إلى عام ٦٥٨هـ (١٢٨٦م) حين أمر أمراء العصر الأيوبي ببنائه فوق بقايا معبد الأقصر وكنيسة قبطية قديمة كانت قائمة داخل ساحته، وقد ساهم هذا الموقع الاستثنائي في منحه تفرّدًا لا تملكه أي منشأة دينية أخرى في مصر، إذ يبدو المسجد وكأنه مُعلَّق فوق أعمدة المعبد الضخمة، بين تاريخٍ فرعوني ضارب في القدم وحضور إسلامي متجذر.
ولم يكن اختيار الموقع اعتباطيا فالأقصر كانت ولا تزال مركزًا روحيًا وثقافيًا مهمًا. وقد ساعد وجود الكنيسة القديمة في المكان على تأكيد طبيعة المدينة كمساحة التقاء بين الديانات، قبل أن يضيف المسجد طبقة ثالثة إلى هذا المشهد المتكامل.
أبو الحجاج الأقصري الوليّ الذي صار رمزا للمدينة
يرتبط المسجد ارتباطا وثيقا بالولي الصوفي أبي الحجاج الأقصري، الذي وفد إلى المدينة من المغرب، واستقر فيها حتى وفاته عام ١٢٤٤م. وقد اكتسب مكانة كبيرة بين سكان الأقصر وأهل الصعيد لما عُرف عنه من الورع والزهد وتعليم أتباعه، حتى صار ضريحه داخل المسجد محطة رئيسية لزيارات المتصوفة والزوّار على مدار العام.
ويشهد المسجد في شهر شعبان من كل عام احتفالًا ضخمًا بمولد الشيخ، تتحول خلاله ساحات معبد الأقصر إلى مسرح مفتوح للطقوس الصوفية والإنشاد الديني والكرنفالات الشعبية، ما يجذب زائرين من شتى أنحاء مصر والعالم.
المسجد المعلق.. تكوين معماري لا يتكرر
يحمل المسجد لقب "المسجد المعلق" نظرًا لوجوده المرتفع فوق أرضية المعبد. وبحسب روايات مرمّمين آثريين، فإن بنية المسجد بنيت على طبقة من الأحجار الفرعونية الضخمة التي كانت تشكّل جزءًا من صرح المعبد الأصلي، ما سمح بتأسيسه بهذا الشكل الفريد.
تتسم عمارة المسجد بالتوازن بين البساطة وخصوصية الطراز المحلي، إذ يتخذ شكلًا مربعًا تعلوه عدة قباب صغيرة، بينما ترتفع مئذنته بأسلوب يُشبه الطراز الريفي التقليدي السائد في صعيد مصر خلال العصرين الفاطمي والأيوبي. كما تُظهر جدرانه مواد بناء مختلفة تمثل فترات متعاقبة من تاريخ الموقع.
وتضيف الأعمدة الفرعونية المحيطة به مشهدًا بصريًا فريدًا، يجعل المسجد يبدو جزءًا من لوحة أثرية تجمع رموزًا من ثلاثة عصور كبرى: الفرعوني، المسيحي، ثم الإسلامي.
مقصد روحي وسياحي عالمي
بفضل موقعه داخل حرم معبد الأقصر، وما يحمله من رمزية دينية وتاريخية، يستقطب المسجد ملايين الزوّار سنويًا من السائحين والمصريين على حد سواء. كما يشكّل نقطة اتصال بين جولات السياح في المعبد ومظاهر الحياة الدينية اليومية لسكان المدينة، ما يخلق تمازجًا نادرًا بين السياحة والروحانية.
ويؤكد خبراء آثار أن المسجد ساهم في تعزيز هوية الأقصر كمدينة متكاملة تجمع الماضي والحاضر، وأن الحفاظ عليه جزء من صون الذاكرة الدينية والاجتماعية لصعيد مصر.
رمز للتسامح وتعدد الحضارات
يمثل مسجد سيدي أبو الحجاج الأقصري نموذجًا واضحًا لفكرة التعايش التاريخي بين الأديان. فوجوده فوق معبد فرعوني وتجاوره مع بقايا كنيسة قبطية يعكس استمرار الحياة الدينية على نفس الأرض، واختلاف أشكال التعبّد دون أن يلغي بعضها بعضًا.
ويرى باحثون أن المسجد يقدم رسالة حضارية مهمة للزائرين، قوامها أن المدن العريقة مثل الأقصر لا تُقاس أهميتها بعدد آثارها فقط، بل بقصص التسامح الإنساني التي عاشتها عبر الزمن.



