من ممر عبور إلى منطقة إقليمية.. مصر تعيد رسم خريطة اللوجستيات في البحر المتوسط
في خطوة استراتيجية عززت مكانتها كمركز لوجيستي إقليمي، دفعت مصر خلال الأشهر الأخيرة بتشغيل وافتتاح عدة مشروعات بنيوية على طول محور قناة السويس، ما أعاد رسم خريطة الحركة التجارية واللوجستية في البحر المتوسط والمنطقة المحيطة، وفي التقرير التالي نستعرض مقومات هذا التحول، آثاره المباشرة على التجارة والنقل، وفرص الاستثمار المصاحبة، إضافة إلى التحديات التي لا تزال تطلّ على الطريق.
من ممُرّ مرور إلى محور لوجستي متكامل
لم تعد قناة السويس مجرد ممر ملاحي يختصر المسافات بين الشرق والغرب، بل أصبحت نواة شبكة لوجستية متكاملة تضم موانئ حديثة، مناطق صناعية ولوجستية، شبكات طرق وسكك حديدية، ومراكز خدمات بحرية. افتتاح المشروعات الجديدة أعطى دفعة عملية لتحويل الموقع الجغرافي لمصر إلى “منصة إقليمية” لاستقبال وتوزيع البضائع، وربط الأسواق الإفريقية والأوروبية والآسيوية ببعضها.
المحركات الرئيسية للتحول
تطوير الموانئ والمناطق الصناعية: تحديث رصيف وساحات انتظار السفن، توسيع قدرات التفريغ والشحن، وإقامة مناطق صناعية ولوجستية قريبة من الموانئ لتقليل زمن الدورة اللوجستية.
تكامل بنية النقل: ربط الموانئ بشبكات طرق سريعة جديدة ومحاور سكك حديدية، مما يقلل تكلفة ومدة نقل البضائع من الساحل إلى الداخل أو للموانئ الأخرى.
خدمات قيمة مضافة: إنشاء مراكز للتغليف، التجميع، الصيانة البحرية، مخازن تبريد وتخزين، مما يرفع من قدرة مصر على تقديم خدمات لوجستية متقدمة تجذب الخطوط الملاحية والمستودعات الإقليمية.
تحسين الحوكمة والإجراءات الجمركية: تبسيط عمليات التخليص، اعتماد أنظمة إلكترونية للتتبع والتصريح الجمركي يسرع حركة البضائع ويقلل الفساد والتكاليف غير الرسمية.
تطوير موازٍ لموانئ الشرق والغرب
أولويات القاهرة اشتملت على تطوير موانئ على البحرين: موانئ شرق بورسعيد (East Port Said) على المتوسط وميناء العين السخنة (Ain Sokhna) على خليج السويس/البحر الأحمر، بالإضافة إلى ارتقاء حركة قناة السويس نفسها عبر إنشاء قنوات وإضافات لرفع القدرة الاستيعابية للسفن وتقليل زمن العبور. افتتاح محطات وبنى تحتية لوجستية في شرق بورسعيد مؤخراً يبرز هذا التوجّه.
شرق بورسعيد (SCZone / SCZone projects): تدشينات حديثة لمحطات شحن متعددة الأغراض ومناطق تخزين وحبوب، بجانب اتفاقيات مع مشغّلين وشركات عالمية لإنشاء مجمعات صناعية ولوجستية بداخل منطقة قناة السويس الاقتصادية.
العين السخنة: توسعات ضخمة في طول الأرصفة وعمقها، ومساحات لوجستية وربط بالسكك السريعة والطرق؛ الشراكات مع مشغّلين دوليين لإنشاء أرصفة ومخازن ومناطق صناعية قريبة من الميناء.
شبكة «الممرات اللوجستية المتكاملة»
أعلنت وزارة النقل ومشروعات الموانئ عن إنشاء 7 ممرات لوجستية متكاملة لربط مناطق الإنتاج (الزراعي والصناعي والطاقة) مباشرة بالموانئ، تشمل تقاطعات طرقية، سكك حديدية، وصوامع وخدمات دعم لوجستي — بهدف تقليل زمن وتكلفة النقل الداخلي وزيادة تنافسية الصادرات المصرية. هذه الممرات تُعدّ جوهر السعي نحو تحويل مصر إلى محور توزيع إقليمي.
شراكات تشغيلية واستثمارية مع لاعبين إقليميين ودوليين
لجذب الخبرة والتمويل تم توقيع سلسلة اتفاقيات مع مشغّلين إقليميين ودوليين: من بينها مذكرات تفاهم واتفاقيات طويلة الأجل مع AD Ports Group ومجموعة مشغّلين دولية لتطوير مناطق صناعية ولوجستية في شرق بورسعيد، ومذكرات تفاهم مع شركات مشغّلة لمحطات في العين السخنة، إضافة إلى تعاونات مع شركات شحن عالمية ومشغلي خدمات لوجستية. هذه الشراكات توفر رأس المال والتقنية وتضمن ربط الموانئ بشبكات لوجستية عالمية
أمن البحر الإقليمي والهبوط المؤقت في عوائد القناة
لا تزال المنطقة تواجه عقبات تؤثر على تنفيذ الرؤية: هجمات الميليشيات البحرية والإرهابية في البحر الأحمر وما تلاها من هبوط حاد في إيرادات قناة السويس أعطى إشارة تحذير بأن الاستراتيجية مرتهنة للاستقرار الإقليمي. في 2024 و2025 تراجعت عائدات القناة بشكل ملحوظ نتيجة هجمات أدت إلى تحويل مسارات بعض السفن وتركها المنافذ البديلة. هذا الواقع دفع القاهرة لتسريع جهود حماية الموانئ وتأمين المسارات البحرية بالتعاون دوليًا.
آثار اقتصادية وتجارية ملموسة
زيادة حركة التجارة العابرة: بفضل تسريع الإجراءات وتوسيع القدرات المينائية، تتجه خطوط ملاحية جديدة لاستخدام قناة السويس ومحاورها كمحطة توزيع إقليمية.
جذب الاستثمار الأجنبي المباشر: المشروعات الكبيرة أعادت ثقة المستثمرين الأجانب في إمكانيات مصر كمركز صناعي ولوجستي لقربها من الأسواق الأورومتوسطية وإفريقيا.
خلق فرص عمل محلية: من تشغيل الموانئ إلى صناعات التكميل والتغليف والخدمات اللوجستية وتشغيل سلاسل التوريد.
دعم الصادرات الوطنية: تقليل تكاليف وشروط التصدير يساعد الشركات المحلية على الوصول لأسواق جديدة وبأسعار تنافسية.
تعزيز الإيرادات من رسوم العبور والخدمات البحرية: ما ينعكس إيجابًا على ميزان المدفوعات وموارد النقد الأجنبي.
موقع مصر في شبكة البحر المتوسط المتجددة
مع التوسعات والتحديثات، باتت مصر وسيطًا حاسمًا يربط بين خطوط الشحن الأوروبية والآسيوية والجنوب-شرقية المتوسطية. الميزة النسبية تكمن في:
قربها الجغرافي من قاراتٍ متعددة،
تكامل البنية التحتية من ميناء إلى منطقة صناعية،
وتزايد الاتفاقات الاقتصادية والتجارية مع دول شريكة وإقليمية.
فرص استثمارية جديدة تلوح في الأفق
قطاعات النقل والتخزين والتوزيع،
مراكز البيانات والخدمات اللوجستية الذكية (digital logistics)،
صناعات القيمة المضافة القريبة من الموانئ (مزارع غذائية، تعبئة وتغليف، تصنيع أجزاء)،
خدمات السفن وصيانة الحوض الجاف،
تطوير سلاسل التبريد للصادرات الزراعية والدوائية.
التحديات التي يجب مواجهتها
رغم المكاسب، تبقى هناك عناصر تحتاج معالجة لضمان استدامة النجاح:
الحاجة إلى استثمارات مستمرة في الصيانة والتشغيل للحفاظ على كفاءة الموانئ والمحاور.
التنافس الإقليمي: دول وحوافز منافسة في شرق المتوسط والبحر الأحمر قد تجذب جزءًا من الحركة.
القضايا البيئية: توسعات الموانئ والأنشطة الصناعية تضع ضغوطًا على البيئة البحرية والساحلية.
الأمن البحري والإقليمي: استقرار الملاحة مرهون بالاستقرار السياسي والأمني في المحيط الإقليمي.
تطوير العنصر البشري: الحاجة لتدريب كوادر لوجستية متخصصة وقوى فنية قادرة على إدارة سلاسل لوجستية رقمية ومعقدة.