في عالم يقدس الرأسمالية العالمية وحرية السوق، لم تعد السيادة الوطنية للدول الصغيرة مجرد مسألة تتعلق بالحدود السياسية أو القرارات الدبلوماسية، بل تحولت إلى سلعة قابلة للتفاوض في أروقة الشركات متعددة الجنسيات العملاقة لقد أصبحت هذه الكيانات الاقتصادية الخارقة تمتلك من النفوذ والقوة ما يفعل كثيراً ما يفوق قوة الحكومات، خاصة في الدول النامية والاقتصادات الصغيرة، حيث تتحول هذه الشركات من لاعبين اقتصاديين إلى فاعلين سياسيين يتحكمون في مصير الشعوب ويشكلون خياراتها التنموية إنها ظاهرة "دولة ما بعد السيادة"، حيث تنتقل السلطة الحقيقية من القصور الرئاسية إلى المقرات الرئيسية لهذه الشركات في نيويورك وسان فرانسيسكو وشنزن.
تمتلك هذه الشركات أدوات نفوذ متعددة، تبدأ من الاستثمارات الضخمة التي تشكل غالبية الناتج المحلي لبعض الدول، مروراً بقدرتها على تحريك أسعار السلع الأساسية في الأسواق العالمية، ووصولاً إلى استخدامها لورقة الضرائب والتهرب الضريبي كأداة للضغط على الحكومات في العديد من الدول الأفريقية، نرى كيف أن عائدات شركات النفط والتعدين الدولية تتجاوز ميزانيات الدول المضيفة نفسها، مما يخلق حالة من التبعية الاقتصادية المطلقة الأكثر خطورة هو قدرة هذه الشركات على تحريك مقار استثماراتها من دولة إلى أخرى، مما يخلق حالة من المنافسة الضارة بين الدول الفقيرة، تتنازل خلالها عن سيادتها التشريعية والضريبية في سباق محموم لجذب الاستثمارات.
الأداة الأكثر فاعلية في يد هذه الشركات هي الدعم السياسي الذي تحظى به من حكوماتها الأم، حيث تتحول القنصليات والسفارات إلى مكاتب لتمشية مصالح هذه الشركات كثيراً ما نرى كيف تتدخل الحكومات الغربية مباشرة لتدعم شركاتها في مفاوضاتها مع حكومات الدول النامية، مستخدمة في ذلك ورقة المساعدات الاقتصادية والعسكرية كوسيلة للضغط هذه الظاهرة تخلق نظاماً اقتصادياً عالمياً غير متوازن، تتراكم فيه الثروات في يد قلة، بينما تظل الدول الصغيرة تدور في حلقة مفرغة من الديون والتبعية.
التأثير الأكثر عمقاً لهذه الظاهرة هو إفراغ الديمقراطية من مضمونها في هذه الدول، فبدلاً من أن تكون البرلمانات ممثلة لإرادة الناخبين، تتحول إلى مجرد مسرح للموافقة على اتفاقيات تم التفاوض عليها مسبقاً بين الحكومة والشركات العملاقة كما تؤدي هذه العلاقة غير المتوازنة إلى تفشي الفساد، حيث تقدم الشركات رشاوى للحكومات مقابل صفقات مفضلة أو إعفاءات ضريبية، مما يستنزف الموارد الوطنية ويدمر المؤسسات الديمقراطية الناشئة.
في القارة الأفريقية وحدها، نرى أمثلة صارخة على هذه المعضلة، من شركات النفط في نيجيريا التي تتحكم في ثروات البلاد بينما يعيش غالبية السكان في فقر مدقع، إلى شركات التعدين في جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تستخرج الثروات المعدنية بينما تترك السكان يعانون من النزاعات والعنف حتى في الدول ذات الدخل المتوسط، نرى كيف أن شركات التكنولوجيا العملاقة تفرض شروطها على السياسات الضريبية وتقوض قدرة الحكومات على جمع الإيرادات.
النتيجة الحتمية لهذا الوضع هي خلق عالم غير مستقر، تتفاوت فيه الفجوات بين الدول والشركات، حيث تتراجع قدرة الحكومات على توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها، وتتصاعد الاحتجاجات الشعبية، ويزداد السخط الاجتماعي السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هو هل يمكن إنشاء نظام حوكمة عالمي جديد يخضع هذه الشرعات للمساءلة ويحمي سيادة الدول الصغيرة؟ أم أننا سنستمر في الانزلاق نحو عالم تحكمه الشركات وتتضاءل فيه سيادة الدول؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد طبيعة النظام الاقتصادي العالمي في القرن الحادي والعشرين
00
أيام
00
ساعات
00
دقائق
00
ثواني
🎉 افتتاح المتحف الكبير ! 🎉