عاجل

في لحظة تبدو كأنها استرجاع لسنوات من العمل الهادئ والمتواصل، جاء الإعلان عن تجديد التصنيف الدولي «أ» للمجلس القومي لحقوق الإنسان ليضع نقطة مضيئة في مسار ممتد من البناء المؤسسي في مصر ، و شهادة دولية تمنح لدولة اختارت أن تعيد صياغة علاقتها مع مفهوم حقوق الإنسان، ليس كشعار أو ملف عارض، بل كأساس في إدارة المجتمع وصياغة السياسات العامة، تلك اللحظة التي بدت بسيطة في ظاهرها، تحمل خلفها آلاف الساعات من الجهد، وتراكم قرارات وتشريعات ومراجعات حقيقية، ترسخ قناعة أن كرامة الإنسان ليست بندا يضاف، بل هي نقطة البداية و المنتهى.

إن الحفاظ على هذا التصنيف في وقت تتعرض فيه المنطقة لتحديات سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة، وتصبح فيه قيمة الإنسان هي محور الاستقرار ومعيار قوة الدول، فالاستثمار في حقوق المواطنين ليس رفاهية، بل أساس بناء مجتمعات قادرة على الاستمرار والتقدم، وهذا ما تدركه الدولة المصرية في الوقت الراهن، حيث يتم التعامل مع ملف حقوق الإنسان باعتباره مسارا طويلا وإستراتيجيا مرتبطا بجودة الحياة، وليس رد فعل لاعتبارات خارجية أو ضغوط مرحلية.

لقد شهد المجلس خلال السنوات الأخيرة عملية تطوير مؤسسي واسعة، شملت تحديث آليات تلقي الشكاوى، وتفعيل لجان الرصد، وفتح قنوات تواصل مع المواطنين والمجتمع المدني، بالإضافة إلى إصدار تقارير ميدانية أكثر وضوحا وتجردا كما عمل المجلس على حضور فعال في المحافل الدولية، مقدما صورة موضوعية عن تطور الملف الحقوقي في مصر، بعيدا عن الشعارات أو التبريرات، وهو ما كان محل تقدير من جهات التقييم الدولية.

هذا الإنجاز يشير إلى وجود إرادة سياسية تتعامل مع حقوق الإنسان بصورة واقعية ومسؤولة، وتفهم أن الحقوق ليست مجرد حقوق مدنية فقط، بل تشمل أيضا الحق في السكن، والتعليم، والرعاية الصحية، والعمل، والعيش الكريم وهذا ما ظهر بوضوح في مشروعات كبرى مثل مبادرة «حياة كريمة» التي تستهدف تحسين حياة ملايين المواطنين في الريف، بما يعكس أن البعد الحقوقي أصبح جزءا من فلسفة التنمية وليس منفصلا عنها.

إن الاحتفاظ بالتصنيف «A» يعكس أيضا تحولا تدريجيا في وعي المجتمع نفسه فهناك توسع في دائرة النقاش العام حول معنى الحقوق، وأهمية المساءلة، وحق المواطن في الحصول على معلومات، وحقه في التعبير والمشاركة، وهذا التطور في الثقافة المجتمعية لا يقل أهمية عن الأداء المؤسسي، لأنه يخلق بيئة يصبح فيها احترام الحقوق جزءًا من السلوك العام وليس مجرد سياسات رسمية.

ومع ذلك، فإن الطريق ما زال ممتدا، فملف حقوق الإنسان بطبيعته ملف ديناميكي ومتجدد، يحتاج إلى مراجعة مستمرة وتطوير دائم، ويحتاج إلى توازن بين حماية الأمن الوطني وصون حرية الفرد، التحديات قائمة، سواء في تعزيز حرية التعبير المنظمة بالقانون، أو في توسيع دور المجتمع المدني، أو في معالجة آثار التحولات الاقتصادية على الفئات الأكثر ضعفا و هنا يظهر الدور الأهم للمجلس: ليس فقط مراقبا أو مصححا، بل شريكا في صناعة السياسات، ووسيطا بين المواطن والدولة، وجسرا يخفض منسوب الاحتقان ويبني مساحات مشتركة للحوار.

الرسالة التي يحملها هذا الإنجاز تتجاوز حدود الداخل إلى الخارج فهي رسالة تؤكد أن مصر دولة قادرة على تطوير نموذجها الحقوقي وفق أولوياتها الوطنية واحتياجات مجتمعها، دون أن تنعزل عن المعايير الدولية أو تنكرها، دولة تسعى إلى التوازن بين الاستقرار والحرية، بين التنمية واحترام الإنسان، وبين مقتضيات الواقع وطموحات المستقبل.

في النهاية، يمكن القول إن الحفاظ على التصنيف الدولي «A» هو خطوة مهمة، لكنه أيضا مسؤولية، مسؤولية أن يستمر العمل الجاد بعيدا عن المبالغة أو الإنكار، ومسؤولية أن يتم تطوير ما تحقق بوعي وثبات فالمجتمعات لا تتقدم بالشعارات، بل بالممارسة، ولا تقاس قوة الدولة فقط بقدراتها المادية، بل بمدى احترامها لكرامة أبنائها.

وإذا كان هناك عنوان عريض لهذا الإنجاز، فهو أن الدولة التي تضع الإنسان في قلب مشروعها هي دولة قادرة على البقاء والتقدم، وهذا هو المسار الذي اختارت مصر أن تمضي فيه.

تم نسخ الرابط