لماذا اختص الله سيدنا موسى عليه السلام وكلمه على جبل الطور دون بقية البقاع؟
أوضحت دار الإفتاء المصرية أن اختصاص الله تعالى لأي مخلوق من مخلوقاته بفضيلة أو ميزة، هو محض فضل وتكرم من الله تعالى، فهو سبحانه يفضل ما يشاء ويختار، واختصاص جبل الطور بالتجلي دون بقية البقاع الطاهرة من باب هذا التفضل والتكرم والتذكير بما وقع فيها من الآيات كما جعل له فضائل متعددة؛ فإن جبل الطور من جبال الجنة، وهو حرز يحترز به عباد الله المؤمنين من فتنة يأجوج ومأجوج، وهو كذلك من البقاع التي حرمها الله على الدجال، وقد تواضع جبل الطور لله فرفعه واصطفاه، وهو الجبل الوحيد الذي وقع عليه تكليم الله لنبيه موسى عليه السلام.

بيان سنة الله الجارية في الخلق بأن يفاضل بين خلقه بما يشاء وكيفما شاء
جرت حكمة الله تعالى وإرادته أن يفاضل في خلقه بما يشاء وكيفما شاء، فمن البشر: فضل الأنبياء والرسل والأولياء على سائر خلقه، ومن البلاد: فضل مكة المكرمة والمدينة المنورة على سائر البلدان، ومِن الشهور: فضل شهر رمضان على ما عداه من الأشهر، وكذا الأشهر الحرم، ومن الليالي فضل ليلة القدر على سائر الليالي، ومن الأيام فضل يوم عرفات على سائر الأيام، ومن الجبال: فضل جبل الطور بتجليه عليه، والكل خلق الله سبحانه وتعالى، يفعل فيه ما يشاء ويحكم فيه بما يريد.
وفي بيان وجه تفضيل بعض الأوقات والبقاع يقول العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير عند الكلام عن تحريم الأشهر الأربعة في سورة التوبة: واعلم أن تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكريمة، وتفضيل غيرهم مما لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل الواقعة فيه، أو المقارنة له، والله العليم بالحكمة التي لأجلها فضل زمنًا على زمن، وفضل مكانًا على مكان، والأمور المجعولة من الله تعالى هي شؤون وأحوال أرادها الله فقدرها، فأشبهت الأمور الكونية، فلا يبطلها إلا إبطال من الله تعالى كما أبطل تقديس السبت بالجمعة.
ولما كان القصد من إرسال الرسل لأقوامهم هو الإيمان بالله تعالى، اقتضى ذلك تأييدهم بالمعجزات التي يظهرها الله على أيديهم تكرمًا منه وإحسانًا، تصديقًا لهم في دعواهم النبوة والرسالة، وفيما يبلغونه عن الله تعالى، فمعجزات الأنبياء دليل على صدق وصحة ما جاءوا به، فإذا أتى بالمعجزة فقد ثبت صدقه لأنها الدليل الذي يفصل بين الصادق والكاذب في ادعاء الرسالة، وهي قائمة مقام قول الله تعالى: صدق عبدي في كل ما يبلغ عني.
وإذا ثبت صدقه فقد وجب اتباعه، قال تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.
قال الإمام الرازي في مفاتيح الغيب: هي -يعني البينات- المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة.
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة.
ثم خصهم الله سبحانه بمزيد فضل وإحسان؛ ليزداد الناس يقينًا في صدقهم، وإيمانًا بما جاءوا به، وتسليمًا لأحكامهم، واتباعًا لشرائعهم، فمع ما أعطاهم من المعجزات الباهرات منحهم من الخصائص والتكريم والتفضيل ما يتيسر معه أمر الدعوة إلى الله تعالى.
وقد فضل الله بعض النبيين على بعض، فقال جل شأنه: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات.
قال الإمام ابن كثير في تفسير القرآن العظيم: يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داوود زبورا وقال هاهنا: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله يعني موسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم وكذلك آدم كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر ورفع بعضهم درجات كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل.
وقد خص الله نبيه موسى عليه السلام بأنه كلمه تكليمًا، قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: قوله تعالى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي الاصطفاء الاجتباء أي فضلتك، ولم يقل على الخلق لأن من هذا الاصطفاء أنه كلمه، وقد كلم الملائكة وأرسله وأرسل غيره، فالمراد على الناس المرسل إليهم.

بيان سر اختصاص جبل الطور بتجلي الله تبارك وتعالى عليه من بين سائر جبال الأرض
أما عن تخصيص الله سبحانه وتعالى جبل الطور بالتجلي عنده دون بقية البقاع المباركة، فكان تشريفًا لهذه البقعة وتكريمًا وتذكيرًا لما وقع فيها من الآيات.
قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: قوله تعالى والطور الطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى، أقسم الله به تشريفًا له وتكريمًا وتذكيرًا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربعة أجبل من أجبل الجنة، وأربعة أنهار من أنهار الجنة، فأما الأجبل فالطور، ولبنان، وطور سيناء، وطور زيتا، والأنهار من الجنة: الفرات، والنيل، وسيحان، وجيحان.
ويشهد له ما جاء من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربعة أجبل من أجبل الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة. قيل فما الأجبل؟ قال: أحد يحبنا ونحبه جبل من جبال الجنة، والطور جبل من جبال الجنة، ولبنان جبل من جبال الجنة، والأنهار الأربعة: النيل، والفرات، وسيحان، وجيحان، والملاحم: بدر، وأحد، والخندق، وحنين.
ومما يبين فضل جبل الطور ما جاء في حديث الدجال الطويل، أن هذا الجبل سيكون حرزًا لعباد الله المؤمنين من فتنة يأجوج ومأجوج، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج.
وكما سيمنع يأجوج ومأجوج من دخول الطور، كذلك ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى حرمه على الدجال، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الدجال: لا يقرب أربعة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد المقدس، والطور.
جاء في بعض الآثار أن الجبل تواضع لله تعالى، واستسلم لقدرته، ورضي بقضائه ومشيئته، فلما تواضع الجبل لله تعالى ناسب أن يتجلى الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام عليه، ويكلمه عنده دون بقية الجبال، فقد أوحى الله إلى الجبال إني نازل على جبل منكم فشمخت الجبال كلها إلا جبل الطور فإنه تواضع وقال: أرضى بما قسم الله لي، قال: فكان الأمر عليه.
ونقل الإمام الثعلبي في تفسيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى ولكن انظر إلى الجبل فهو أعظم جبل بمدين يقال له زبير، فلما سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلى الله لها وجعل زبير يتواضع من تبيان، فلما رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينهما وخصه بالتجلي.
فهذه الفضائل تضاف إلى الفضيلة الكبرى المذكورة في القرآن الكريم من تكليم سيدنا موسى عنده، كما جاء في قوله تعالى: وكلم الله موسى تكليمًا، وكما في قوله تعالى: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا، وكما في قوله تعالى: وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا.



