00 أيام
00 ساعات
00 دقائق
00 ثواني

🎉 افتتاح المتحف الكبير ! 🎉

عاجل

يقول نابليون " الجغرافيا هي القدر"، ويقول صاحب "عبقرية المكان " جمال حمدان " الجغرافيا تاريخ ساكن"، فكيف يمكن لشخص إذن أن يتجاوز قدره، وكيف يستطيع أن يتحدى قوانين الواقع بتعقيداته الاجتماعية والاقتصادية وتركيبته العائلية القبلية، انت إذن في معركة مع الحياة نفسها.

لعل من يقرأ هذه السطور، وانا اكتب عن رجل عايشته عن قرب لنحو ١٥ عاما، ينتظر أن اكتب عن مصطفى بكري السياسي او نائب البرلمان المخضرم او الصحفي المثير للجدل، لكنني في الحقيقة ساخيب ظنونكم، وساكتب فقط عن رجل عرفته، تحدثت إليه وسمعت منه وسمعت عنه.

إذا كنت تريد أن تعرف مصطفى بكرى حقا، فدعك من مهاترات السوشيال ميديا، وجنرالات الكيبورد، وأصحاب النظريات المعلبة والتهم الجاهزة والاكليشيهات الفجة، واذهب الي هناك الي اقضي الجنوب، في قنا، بل بالتحديد في المعنى، تلك القرية الصغيرة القابعة في أحضان الجبل الحقول، تأمل وجوه أهلها البسطاء، وانصت بقلبك الي نبض البيوت، واستمع الي حكايات الرفاق القدامى الذين عاصروه وعايشوه.

هناك في المعنى لن تجد لمصطفى بكرى أو عائلته قصرا، ولا حتى بيتا كبيرا مزركشا، إنما هو بيت بسيط ككل بيوت القرية، وعلى بعد خطوات من البيت ستجد مقر جمعية رعاية الأيتام التي انشاها الأستاذ واشقائه لتقديم الخدمات الاجتماعية لأهل المعنى، تمضي في شوارعها فلا تكاد ترى صورة لمصطفى بكرى، لكنك تلمح في كل مكان اثره الذي لا تخطئه العين، فهذا رجل عندما أصبح كبيرا وملء السمع والبصر لم يدر ظهره لحصي الشوراع التي تربى فيها، ولا لنسيم الحقول التي عانقها صغيرا.

يقولون انك تعرف الناس أكثر في السفر، وقد سافرت مع الأستاذ كثيرا، وعايشت معه الكثير من المواقف، لكن موقفين يظلان عالقين في ذاكرتي، الأول عندما كنا في محطة قطارات مركز طهطا بمحافظة سوهاج، كانت الساعة تقترب من الواحدة صباحا، وكنا في انتظار قطار سيقلنا الي قنا، في تلك الليلة أخبرنا مسئول المحطة ان القطار سيتأخر لأكثر من ساعتين، وبدأ الركاب المتواجدون في المحطة يلاحظون وجود الأستاذ مصطفى فالتفوا حوله يلتقطون الصور ويعرضون عليه بعض مشكلاتهم، التفت ضباط تأمين المحطة الي ما يحدث فجاء إلينا أحدهم وطلب منا الجلوس في غرفة ناظر المحطة تجنبا لمزيد من تجمهر الناس حول الأستاذ، انتهى الأمر في النهاية إلى استقلال قطار متجه إلى مدينة سوهاج، ومنها استقلينا قطار آخر الي محافظة قنا، وفي كل تلك التنقلات بين المحطات والارصفة القطارات يتكرر مشهد التجمهر حول الأستاذ بينما يتعامل هو مع الجميع بصبر مدهش وابتسامة رائقة، ويحمل حقيبته الثقيلة بنفسه رافضا مساعدتي او مساعدة أي شخص آخر في حملها عنه ولو قليلا.

الموقف الثاني عندما كنا في الغزدقة، كنا نحضر مؤتمرا سياسيا كبيرا، وكان يشارك فيه احد وزراء الخارجية السابقين وخبير استراتيجي كبير دائم الظهور في القنوات المصرية والعربية، يومها كان الحضور كثيفا، قبل انتهاء المؤتمر بدقائق ناداني وزير الخارجية الأسبق وقال لي انه سيخرج ومعه الخبير الاستراتيجي من الممر الخلفي لمكان انعقاد المؤتمر، فهما لا يستطيعان المرور وسط كل تلك الحشود، خاصة اننا كنا في ساحة مفتوحة، يومها نزل الأستاذ وحده وسط الناس، وكان في كل متر يقطعه نحو الخروج يتجمهر حوله العشرات، بينما يتعامل هو معهم بصبر يصل إلى درجة الاستحالة، متجاهلا اعتراض وصراخ ضباط الحراسة الذين يطالبوننا بالخروج سريعا من وسط هذا الطوفان البشري،

اما دخوله وسط زراعات القصب في قنا وحده لمقابلة رجال إحدى العائلات المتورطة في خصومة ثارية، فهي قصة تشبه الأساطير وحكايات أفلام الرعب.

في بلد مثل قنا وفي قرية مثل المعنى تفرض الطبيعة قوانينها الصارمة، وتقول الجغرافيا كلمتها الحاسمة، تزداد الصعوبات أمام البشر عشرات المرات، تتضاءل الفرص وتتدني نسب النجاح الي اقل مستوى، ولكي تستطيع تجاوز كل هذا عليك ان تكون مقاتلا، وهكذا فعل مصطفى بكرى.

اختلف معه كما شئت، في مواقفه السياسية، في ارائه، في خياراته، لكن كن منصفا واعترف للرجل بقدره وقيمته، 
هذا رجل اختبرته الدنيا وعرف طعم الألم، وعاش بين الناس، فانصت وتحدث إليه برحابة صدر، فكل نقاش مع شخص لم يعرف الألم هي محض ثرثرة، كما يقول فيلسوف رومانيا العظيم ايميل سيوران.

تم نسخ الرابط