أعلام التصوف
عبدالواحد يحيى.. قصة الدرويش الفرنسي الذي اهتدى بكتاباته 250 ألف مسلم

سلط عبدالغني هندي عضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية، خلال حديثه عن احتفالات الطرق بموالد آل البيت والصالحين الضوء على الشيخ عبدالواحد يحيى، كأحد أعلام التصوف الإسلامي والذي ساهم في نشر الإسلام بين 250 ألف شخص، فمن هو الشيخ عبدالواحد يحيي؟
من هو الشيخ عبدالواحد يحيى؟
يُعد العلامة الفرنسي رينيه جينو -أو العارف بالله الشيخ عبد الواحد يحيى كما كان يسميه الإمام عبد الحليم محمود رضي الله عنهما- حُجة الأديان عامة، وحجة الإسلام خاصة في القرن العشرين.
المولد والنشأة:
ولد «جينو»في بلدة «بلوا» الفرنسية، التي تقع على نهر «اللوار»، على بعد 172كم من «باريس»، في الخامس عشر من نوفمبر سنة 1886م، من أسرة فرنسية كاثوليكية، وكان والده مهندسًا ذا شأن.
نشأ «جينو»هادئًا وديعًا، وكانت تظهر عليه منذ الطفولة ملامح الذكاء الحاد، إلا أن ظروفه الصحية حالت دون التحاقه بالمدرسة، فتولت عمته «دورو» تعليمه القراءة والكتابة في منزلها على ضفاف نهر «اللوار» حتى الثانية عشرة من عمره ... وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره التحق بكلية «رولان كلودج» في باريس ليحصل على شهادة الليسانس في شعبة الفلسفة، حتى نالها سنة 1904م، بعد أن نال جوائز عدة كانت تُمنح للمتفوقين من أمثاله.
حصل على البكالوريا في الرياضيات المتخصصة، إلا أن دراسته في ذلك الوقت قد عرفت الخط الذي سيصبح طريقه إلى البحث المتواصل، فلم يكتف بالدراسة الجامعية وراح ينهل من العلم في «باريس» الزاخرة بالمعلمين والمرشدين من الشرق والغرب .. وما أن وصل إلى العشرين من العمر حتى كان قد تشرب أساسيات تكوينه الروحي، وبدأ رحلته في البحث والتنقيب بين المنظمات المختلفة لمعرفة ما إذا كانت ذات طابع أصيل أم لا؛ إذ لم يعد رجال اللاهوت الكنسي قادرين على تقديم إجابات مقنعة لأسئلته؛ فقرر الابتعاد ومحاولة البحث بنفسه عن اليقين المطلق في غياهب المجهول، وراح يدرس أهم المذاهب الدينية والفلسفات الروحية قبل أن يستقر به المطاف في رحاب الإسلام ليصبح واحدًا من أهم متصوفي العصر الحديث.
في عام 1906م خالط المدرسة الحرة للدراسات الغيبية «ليابوس»، وانتقل إلى منظمات أخرى كالمارتينية والماسونية التابعة للطقس المعروف باسم الطقس الإسباني، وفي عام 1908م انضم إلى المحفل الماسوني الكبير في فرنسا، كما انضم إلى الكنيسة «الغنوصية»، وهي كنيسة قائمة على المعرفة من أجل الوصول والرقي لمعرفة الله سبحانه وتعالى، أي: أنها قائمة على عكس الكنيسة السائدة التي تؤمن بتجسد الله عز وجل إلى بشر وما إلى ذلك، وفي نفس هذه الفترة التقى بالعديد من الشخصيات التي سمحت له بتعميق معرفته بمذهب الطاوية الصيني وبالإسلام.
اعتناقه الإسلام:
في عام 1912م اعتنق «رينيه جينو»الإسلام، وفي نفس العام تزوج من فتاة فرنسية من إقليمه.
كانت معرفته بالمفكر والرسام السويدي «جان جوستاف أجلي»، الذي اعتنق الإسلام عام 1897م، فصار اسمه عبد الهادي، والذي كان يشارك في تحرير مجلة عربية إيطالية باسم «النادي»، كانت هذه المعرفة لها الأثر الأكبر في إسلامه، خاصة أن «جينو»نشر العديد من المقالات عن المتصوف العربي الشهير: محيي الدين بن عربي.
كان «جينو»في هذا الوقت يصدر مجلة باسم «المعرفة»، فأخذ عبد الهادي في عام 1910م يساهم فيها بجد ونشاط، ونشر فيها أبحاثًا وترجمة لكثير من النصوص الصوفية إلى اللغة الفرنسية، ومن هنا تمكن عبد الهادي من أن يعقد بين «جينو»والشيخ عليش -الذي أسلم هو على يديه- صلة قوية متينة، عن طريق تبادل الرسائل والآراء، وكانت النتيجة أن اعتنق «جينو»الدين الإسلامي عام 1912م، بعد أن درسه دراسة مستفيضة.
ويحكي لنا الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود سبب إسلام «رينيه جينو»، فيقول: «كان سبب إسلامه بسيطًا ومنطقيًّا في آنٍ واحدٍ، لقد أراد أن يعتصمَ بنصٍّ مقدسٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلم يجد بعد دراسته العميقة سوى القرآن؛ فهو الكتاب الوحيد الذي لم ينله التحريف ولا التبديل؛ لأن الله تكفل بحفظه، فاعتصم به وسار تحت لوائه، فغمره الأمن النفساني في رحاب الفرقان».
إقامته بمصر:
عرض بيت من بيوت النشر في باريس، على الشيخ عبد الواحد أن يسافر إلى مصر ليتصل بالثقافة الصوفية؛ فينقل نصوصًا منها ويترجم بعضها، فقبل العرض.
وفي 20 فبراير سنة 1930م، سافر إلى مصر لهذا الغرض، وكان المفروض أن يقضي فيها بضعة أشهر فقط، ولكن هذا العمل اقتضاه مدة طويلة، ثم عدل بيت النشر عن مشروعه؛ فاستمر الشيخ عبد الواحد يحيى في القاهرة، يعيش في حي الأزهر متواضعًا مستخفيًا لا يتصل بالأورُوبيين، ولا ينغمس في الحياة العامة، وإنما شغل كل وقته بدراساته.
كانت والدته وزوجه ووالده قد توفاهم الله قبل حضوره إلى القاهرة؛ فحضر إليها وحيدًا، ووجد الكثير من المشاقِّ في معيشته منفردًا؛ فتزوج في سنة 1934م كريمة الشيخ محمد إبراهيم، فمهدت له حياة من الطمأنينة والهدوء.
وانتقل بها من حي الأزهر إلى حي الدقي، واستمر يرسل المقالات إلى فرنسا، وينشر الكتب مستريحًا إلى عطف زوجته ورعايتها، ورزقه الله بفتاتين، سمى إحداهما خديجة والأخرى ليلى، ورزقه بولد سماه أحمد، كان له قرة عين، وبعد وفاته بأربعة أشهر، أتت زوجه بولد، سمَّته عبد الواحد.
ولقد حاول الشيخ عبدالواحد يحيى بمجرد وصوله إلى القاهرة، أن ينشر فيها الثقافة الصوفية؛ فساهم ماليًّا وأدبيًّا في إخراج مجلة «المعرفة»، وقد بدأت المجلة وعليها طابع التصوف، ولكنها -فيما يبدو- لم تجد الإقبال المنتظر؛ فأخذت تتسم شيئًا فشيئًا بالطابع الأدبي، ثم توقفت عن الصدور بعد ثلاث سنوات من حياتها.
ومكث الشيخ عبد الواحد في القاهرة يؤلف الكتب، ويكتب المقالات ويرسل الخطابات إلى جميع أنحاء العالم، كان حركةً دائمةً، حركةً فكريةً وروحانيةً ترسل بسنائها إلى كل من يطلب الهداية والرشاد.
تصوفه:
عرف «جينو» الإسلام عن طريق الطرق الصوفية، ومنها: الطريقة «الشاذلية» التي أخذها عن الشيخ عبد الرحمن عليش، ابن الشيخ المغربي الأصل محمد عليش، إمام المذهب المالكي بالأزهر الشريف، كما عرف الإسلام أيضًا عن طريق الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي، عن طريق الشيخ عليش أيضًا، وبدون تعارض مع العقيدة الإسلامية، بل هو التصوف الإسلامي في أبهى صوره ...
ومن أهم الكتب التي أصدرها عن الصوفية والمتصوفين:
- «القديس برنار» 1921م.
- و«صوفية دانتي» 1925م.
- و«ملك العالم» 1927م.
- و«لمحات في التصوف» 1946م.
- و«التلفيق الروحي وتحقيقه» 1952م.
- و«لمحات في التصوف المسيحى»1954م.
وفاته:
توفي في 7 يناير سنة 1951م، تحيط به أسرته الكريمة، ثم ودعته الوداع الأخير. ولقد وصف الكاتب المشهور أندريه روسو -حيث كان في القاهرة إذ ذاك- جنازة الشيخ عبد الواحد؛ فكتب في جريدة «الفيجارو» الفرنسية، يقول: «شيعت جنازته في اليوم التالي لوفاته، وسار في الجنازة زوجه وأطفاله الثلاث، واخترقت الجنازة البلدة إلى أن وصلت إلى مسجد سيدنا الحسين حيث صُلي عليه، ثم سارت الجنازة إلى مقبرة الدراسة.
لقد كانت جنازة متواضعة مكونة من الأسرة ومن بعض الأصدقاء، ولم يكن فيها أي شيخ من مشايخ الأزهر، ودفن الشيخ عبد الواحد في مقبرة أسرة الشيخ محمد إبراهيم.
وكان آخر ما قال لزوجه: «كوني مطمئنة، لن أتركك أبدًا، حقيقة إنك لا ترينني، ولكنني سأكون هنا وسأراك».
ويضيف روسو: «والآن حينما لا يلتزم أحد أطفالها الهدوء؛ فإنها تقول له: كيف تجرؤ على ذلك مع أن والدك ينظر إليك؛ فيلتزم الطفل السكون في حضرة والده اللامرئي».