عاجل

ما حكم الدم النازل بعد الإجهاض.. وهل يعد نفاسا؟ .. الإفتاء توضح

الإجهاض
الإجهاض

أشارت دار الإفتاء إن أن بداية تخلُّق الجنين في رحم أمه تكون بتمام ثمانيةٍ وعشرين يومًا، وتُحسَب هذه الأيام مِن أول يومٍ في آخِر حيضةٍ نزلت عليها قبل حصول الحمل، والدَّم النازل بعد سقوط الحمل الذي هذا وصفُه هو دم نفاس، ومن ثم فإن الدم النازل على المرأة المذكورة بعد الإجهاض في الشهر الثاني من ثبوت حملها في جنينٍ طبيًّا يُعَدُّ دمَ نفاسٍ شرعًا، وتجري عليه أحكامه.

المقصود بالإجهاض وبيان أنواع الدم الخارج من رحم المرأة


الإجهاض: هو خُرُوجُ الجنين أو إسقاطُه مِن الرَّحِم ميتًا قبل تمامه، أو بعد تمامه، نُفِخَت فيه الروحُ أم لا على السواء، في أيِّ مرحلةٍ مِن مراحل تكوينه، كما في لسان العرب للعلامة جمال الدين ابن مَنْظُور، والحاوي الكبير للإمام المَاوَرْدِي، والجنينُ أَعَمُّ مِن السِّقْط، كما في فتح القدير للإمام كمال الدين ابن الهُمَام.

وللحمل مراحل يمر بها الجنين ويتغير ويتقلب في أطوار الخَلْق والتكوين في رحمِ أُمِّهِ قبل أن تُنفَخَ فيه الرُّوحُ، يدل عليها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» متفق عليه.

والدم الخارج مِن رحم المرأة لا يخلو أن يكون حيضًا، أو نفاسًا، أو استحاضة.
ودم النفاس هو الدم المتعلق بوضع الحمل من هذه الدماء؛ إذ “النِّفَاسُ سَبَبُهُ الوِلَادَةُ”، كما في شرح مختصر خليل للإمام أبي عبد الله الخَرَشِي.

حكم الدم النازل بعد الإجهاض


قد اتفق الفقهاء على أنَّه إذا سقط الجنين بعد مرور مائةٍ وعشرين يومًا من الحمل وهي المدة التي تُنفخ لتمامها الروح، فإن الدم النازل بعده هو دم نفاس؛ لأنه بعد نفخ الروح فيه قد أصبح إنسانًا قد نفخت فيه الروح، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه السابق ذكره.

وأمَّا إذا سقط الحمل لأقلَّ مِن مائةٍ وعشرين يومًا: فالمعوَّل عليه عند الفقهاء في هذه الحالة هو تبيُّن أنَّ هذا السقط كان حملًا بجنينٍ فعلًا حتى يُحكم بأن النازل بعده هو دم نفاس، وقد سلكوا في سبيل ذلك مَسَالِكَ عدةً، الغايةُ منها هي التيقُّن مِن أنَّ الخارج مِن الرحم جنينٌ قابلٌ للتخلق فيكون الدمُ النازلُ بَعدَه دمَ نفاسٍ ويأخذ أحكامه، وليس مجرد دم جامد أو غير ذلك مما يمكن أن يشتبه على النساء فيكون الدم حيضًا أو استحاضةً على ما فَصَّلُوهُ مِن أقوالٍ للتمييز بين الحيض والاستحاضة.

فالحنفية والحنابلة اشترطوا للحكم بأن الدم نفاسٌ أن تستبين خِلْقةُ الجنين السقط أو بعضُها حتى يُتيقَّن أنَّ الخارج مِن رحم المرأة وَلَدٌ أو بداية خَلْق الولد ولو خَفِيَ ذلك بحيث لا يعرفه إلا ذوو الخبرة وأهل التخصص، وذلك باعتبار أن استبانة الخِلْقة علامة على وجود الحمل بجنين فعلًا فيكون إلقاؤه ولادةً، لا بمجرد دم لا يتخلق منه إنسانٌ فلا يكون حملًا أصلًا ولا يكون إلقاؤه ولادةً.

بينما اكتفى المالكيةُ والشافعيةُ بأن يكون السقطُ مُبْتَدَأَ خَلْقِ ولدٍ حتى يكون مِن نحو الولادةِ فيُحكم بأنَّ الدمَ النازل بعده نفاسٌ، إلا أنهم اختلفوا فيما يُعد مبتدأ خَلْقِ ولدٍ وما لا يُعد كذلك من مراحل الحمل:
فذهب المالكية في المشهور إلى أن مبتدأ خَلْق الولد قد يُتيقن به قبل مرحلة العَلَقَة بمجرد أن ينعقد الدم ويجتمِع في أول طَوْرٍ من أطوار الحمل بالجنين، وهو أيضًا قولُ الإمام الحسن البصري، إذ اعتَبَر لمثل ذلك كلَّ ما تَعلَم فيه المرأةُ مِن نفسها أنَّه حملٌ.
وذهب الشافعية والإمام أشهب من المالكية إلى أن مبتدأ خَلْق الولد إنما يُمكن التيقن به في مرحلة العَلَقَة فما بَعدها، والعَلَقة هي الدم المُجْتَمِعُ الذي إذا صُبَّ عليه الماءُ الحارُّ لا يَذُوب.

فعن الحسن البصري رحمه الله: “إذا أَلْقَتِ المرأةُ شيئًا تَعلَمُ أنه حَمْلٌ.. انقَضَت به العدةُ”. وإذا كانت العدَّة مِن الأحكام التي سببُها فراغُ الرحم مِن الحمل بالولد، فكذلك الدَّمُ الْخَارِجُ بَعْدَ فَرَاغِ الرَّحِمِ مِن الْحَمْل يعد نفاسًا.

فيتحصل مِن ذلك: أن العلة عند الفقهاء في ثبوت دم النفاس هي أن يكون نزول الدَّم مرتبطًا بانْفِرَاجِ الرحم عن الولَدِ؛ لأنه ولادة، سواء أكان تامَّ الخِلْقةِ أم ناقصَها ما دام التخليق قد بدأ، وسواء أكان حيًّا أم ميتًا، وأن المرجع عندهم في تحديد استبانة الجنين هو المشاهدة والوجود كما تفيده عبارات الفقهاء، وأن إخبار أهل الاختصاص من الأطباء وغيرهم بهذا أو ذاك هو المُعْتَدُّ به في المقام الأول، باعتبار ممارستهم التوليدَ، وخبرتهم المتراكمة في معرفة أحوال الأجِنَّة، والتمييز بين ما يكون أصلَ ولدٍ ومبتدأ خَلْقه مِن غيره.

القولُ بما تقرره علومُ الطب الحديث في هذه المسألة
إذا ثبت وجود الحمل بالولد -سواء استبانت خِلْقته أو كانت في بدايتها- ثبوتًا لا مِرْيَةَ فيه، فقد تحققت العلة التي عليها رُتِّبت تلك الأحكام الشرعية، مِن انقضاء العدة، واعتبار الدم النازل نفاسًا؛ لِمَا قد تقرَّر في أصول الشريعة مِن أنَّ “الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا”.

وثبوت تَخَلُّق الجنين هو مِن المسائل الطبيَّة، والمسألة الفقهية إن كان لها تعلُّقٌ بالطِّب، فإن تمام تصوُّرِها مرهونٌ بالإحاطة بما قرَّره عِلم الطب فيها، حيث يتغير حُكمها بتطوُّرِهِ وتغيُّرِ كلمتِهِ واستقرار حقائقه فيها، إذ يختلف التصوُّر الفقهي حينئذٍ، و”الْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ”.

فالقولُ بما تقرره علومُ الطب الحديث هو الفيصل في هذه المسألة، إذ إنَّ “مَا لَا تَقْدِيرَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْوُجُودِ”، وقصدوا بالوجود فيما يتعلق بجسم الإنسان: ما يقرره الأطباء المختصون؛ لأنهم أعلم الناس بحقيقته، ولأن الشريعة المحكَمة قد أناطت المعرفة الصحيحة بالرجوع إلى أهلها، فلا يسوغ في هذا الأمر إلا الرجوع إليهم، كما قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].

ثم إنه قد تطوَّرَت علومُ الطب تطورًا كبيرًا في هذا المجال، حتى باتت مشاهدة الجنين ومتابعة نموه في بطن أمه مِن الإمكان بمكان، وأصبح تحديد وقت مبتدأ خَلْق الجنين ووقت استبانة هذا الخَلْق تبعًا لذلك معلومًا على جهة القطع واليقين، بما توفر في هذا العصر مِن وسائل تُثبت وجود الحمل وبداية تَخَلُّقه مِن لحظاته الأُوَل في رَحِمِ الأم الحامل، مما استُحدث مِن الوسائل الطبية، كالتحاليل المخبرية الدقيقة، واستخدام أجهزة الأشعة الصوتية الطبية (السونار)، مما مكَّن الأطباء مِن الكشف المبكر عن وجود الحمل وبداية خَلْقِه، والتأكد مِن سلامته ومتابعة ما يجري له مِن تطورٍ وتغيرٍ، إضافة إلى معرفة نَوع الجنين.

فأكدَت تقاريرُ الكشف الـمُبَكِّرِ عن الحمل بالوسائل الحديثة المختلفة (كفحص السونار أو الموجات فوق الصوتية أو الإشعاع) أنَّ النواة العصبية وأجهزة الحس بالجنين تبدأ بالتكوُّن بعد أسبوعين فقط مِن زمن الحمل السوناري الذي يُحسَب مِن أول يومٍ في آخِر حيضة قبل الحمل، ففي اليوم الـ20 مِنه تهاجِر خلايا الصفيحة العصبية إلى الخط الناصف، وتكبر الخلايا المجوَّفة لتصبح على هيئة قرص مقسم ينطوي على مجموعة من الأغشية الحية، وفي اليوم الـ23 تندمج هذه الخلايا مِن الأعلى لتُكَوِّن الأنبوب العصبي، وبحلول الأسبوع الرابع يُقَسَّمُ هذا الأنبوب إلى أقسام ثلاثة، هي: الدماغ الأمامي، والدماغ المتوسط، والدماغ الخلفي، والجزء الباقي من الأنبوب سيصبح بعد ذلك الحبل الشوكي.

ومِن ثمَّ فمبتدأ خَلْق الجنين يكون بتمام الأسبوع الرابع (28 يومًا) مِن حساب زمن الحمل، حيث يَظهَر جزءٌ مِن خِلْقة الجنين كالرأس، والخياشيم، والقلب، وبداية الأطراف، وتظهر العين البدائيَّة الأولية، ويُستطاع رؤية الذراعين والرجلين والوجه عن طريق أجهزة الكشف الحديثة، كما توجد الأجهزة الرئيسة في الشهر الثاني مِن الحمل، وأصبح للأطباء إمكانية التأكد مِن وجودها وسلامتها، ومِن ثمَّ فالإجهاض الحاصل بعد ذلك قد توفر فيه شرط الفقهاء مِن المَسْلَكَيْن السابقين على السواء، مِن تأكُّد الحمل بالولد، واستبانة الخلقة الدالَّة على وجود التخليق، فكان هذا الدمُ النازل مِن الرحم بعد تلك المدة دمَ نفاسٍ، وليس غيره مِن الدماء التي تَعرض للنساء كالحيض ودم الفساد (الاستحاضة).

تم نسخ الرابط